من صلابة الصحة إلى سيولة اللياقة

في ذلك النظام الجديد : المرونة هي الثبات الوحيد والزوال هو الدوام الوحيد والسيولة هي الصلابة الوحيدة ، باختصار شديد : اللايقين هو اليقين الوحيد .
بهذه الجمل التقريرية يصف زيجمونت باومان زمن ( الحداثة السائلة ) كما يسميه في مشروعه الاجتماعي الاقتصادي الذي بدأه بكتاب ( الحداثة السائلة ) ، ثم أتبعه بعدد من الكتب التي توضح وتشرح نموذجه التفسيري التي اتخذه في تحليل مرحلة ما بعد الحداثة إن صحت التسمية ، حيث يقول أن أهم ما يميز هذه المرحلة أنها تسعى دوماً إلى التحسين والتقدم دون وجود حالة نهائية تلوح في الأفق ودون وجود رغبة في هذه الحالة النهائية .
أحد أهم الأفكار التي طرحها باومان في مشروعه هي تحول طاقات البشر من الإنتاج إلى الاستهلاك وهو الفرق الجوهري الذي تتصف به هذه المرحلة السائلة كما يسميها ، وتبعاً لذلك فقد تمركزت الحياة الاجتماعية حول الاستهلاك بدل الإنتاج وتحولت بالتالي قيمة الفرد من تبعيتها إلى مستوى إنتاجه إلى مستوى استهلاكه الذي أصبح المعيار الأول لقيمة ذلك الفرد في المجتمع ، وارتفع مستوى التطلعات من الحاجة إلى الرغبة ، وقد أورد باومان الفرق بين الصحة واللياقة كمثال يوضح من خلاله هذا الفرق منوهاً إلى أنه إذا كان مجتمع المنتجين قد جعل الصحة معياراً ينبغي تحقيقه ، فإن مجتمع المستهلكين دائماً ما ينادي باللياقة ويدعو أعضاءه إلى الجري خلفها .
على الرغم من اشتراك الصحة واللياقة في التعامل مع جسم الإنسان إلا أن هنالك فرقاً جوهرياً بينهما يشبه الفرق بين مرحلتي الصلابة والسيولة ، فالصحة كما نعلم هي حالة سليمة مرغوبة لجسم الإنسان وروحه يمكن وصفها وقياسها بدقة كبيرة ، إنها حالة تمكن الفرد من القيام بكافة متطلبات الحياة الأساسية والتي تكون عادة ثابتة ومستمرة ( صلبة ) كما تساعده على الاستمتاع بما يقوم به وتسمح له بالعمل في أي مكان سواءً أكان في المصنع أو المنجم أو المكتب أو في أي مكان آخر .
أما اللياقة فيمكن وصفها بأي شيء إلا ( الصلابة ) لأنها بطبيعتها لا يمكن الإمساك بها وتحديدها بدقة ، فالاختبار الحقيقي لها دائماً ما يقع في المستقبل لأنها بلا سقف محدد ، وانعدام سقفها بالتحديد هو ما تستمد منه هويتها حيث تغيب كافة الأطر التي يمكن أن تنحصر داخلها لتصبح طريقاً طويلاً لا نهاية له وسفراً لا منتهٍ بعكس الصحة التي يمكن تحديد وجهتها النهائية باطمئنان .

إن الشخص الذي يجاهد في سبيل اللياقة في حركة دائبة وتغير مستمر ، ولا يقين لديه ببلوغ النهاية أو بالأصح لا يوجد لديه خط نهاية ، هذا الشخص معرض للمخاطر في جسده ولديه احتمال بأن يصاب بالإحباط والتشتت ، إنه يسعى وينمي لياقته لا يعلم لماذا بالضبط  ولا متى سيتوقف ولا ما ينتظره مستقبلاً .. باختصار هذا الشخص هو الفرد في مرحلة الحداثة السائلة .

لماذا يبتسم الفقراء ؟

نلاحظ دائماً بأن الشعور بالسعادة والطمأنينة والرضى هو ما نتوقعه من الناس الذين نشاهدهم في صورة أو مشهد لحي شعبي أو منطقة فقيرة ، سواءً كان ذلك في الواقع أو في الأعمال الفنية من أفلام ومسلسلات ، فهنا أطفال يلعبون وهنالك رجال يتحلقون حول إبريق شاي وعلى الطريق نسوة ذاهبات أو عائدات من زيارة لإحداهن ، دائماً تشعر بأن هنالك شيء من الألفة والمودة بين الجميع ، كذلك حين تزور الدول الفقيرة تلاحظ بأن ابتسامة الرضى والاحترام تعم الجميع وفي كل مكان رغم حالة الفقر والعوز التي يعيشونها ، كما أنك تلاحظ بأن علاقاتهم فيما بينهم تسودها الكثير من المحبة والوئام ، مقابل ذلك فإنك تشعر بأن هنالك شعور بعدم الرضى والتبرم الدائم في المجتمعات الأكثر ثراءً سواء على مستوى الواقع أو على مستوى الأعمال الفنية التي تعكس هذا الواقع ، الناس هناك دائمي الضجر ، تسود علاقاتهم الانتهازية وتشعر بأن بينهم الكثير من عدم الانسجام ، ولا تلاحظ بينهم تلك العلاقة الحميمية التي تكون عادة بين الفقراء .
هذا الأمر الذي يخالف المتوقع يجعلنا نتساءل حول تشكل مثل هذه الظواهر في تلك المجتمعات ويحفزنا على البحث عن سبب تبرم من تهيأت له كل أسباب الراحة الأساسية مقابل رضى من يفتقر أحياناً إلى بعض المتطلبات الأساسية في حياته .
إن روح المنافسة التي تسود المجتمعات التي يكون غالب سكانها من الطبقة المتوسطة والتي تعتبر ثرية مقابل المجتمعات الفقيرة تجعل الجميع في حالة صراع مستمر مع النفس ومع الآخرين ، الناس هناك دائمي التطلع للمستقبل وعلى جميع الأصعدة ، سواءً في المقتنيات أو الوظائف أو على المستوى الاجتماعي وحتى في مجال الترفيه والكماليات ،هذا الأمر يجعل الفرد يرى في الآخرين منافسين له أكثر من كونهم شركاء له في الأرض والانتماء والمصير ،  بينما يخف التنافس كثيراً في المجتمعات الفقيرة مما يجعل الجميع يرضى بما لديه ولا يشعر بالتمايز بينه وبين الآخرين وذلك يؤدي بلا شك إلى مثل تلك الحميمية والمودة بين الجميع .
هنالك فرق كبير بين الثقافة والحضارة ، الثقافة هي مجموعة الأفكار والتوجهات التي تشكلت عبر تاريخ طويل من التجارب والأفكار ، بينما الحضارة هي التقدم على مستوى الواقع من تطور تكنلوجي ومبانٍ وطرق معيشية ، الثقافة داخل النفوس تؤثر في السلوك ، والحضارة خارجها تؤثر في طرق المعيشة ، هذا الفرق ربما يفسّر لنا شيء من الإشكالية التي طرحت أعلاه ، حيث تمتلك بعض المجتمعات ثقافة جيدة رغم تأخرها حضارياً مما يجعل سلوكها المتأثر بتلك الثقافة أكثر تهذيباً وإنسانية من بعض المجتمعات التي تقدمت حضارياً ولم تتقدم ثقافياً بنفس المستوى وهو ما انعكس على العلاقات بين الناس وسلوكهم فيما بينهم .

يثقل من توفرت له متطلبات المعيشة الأساسية نفسه بالاهتمام بالكثير من القضايا ، يهتم بالسياسة والاقتصاد والتعليم وبالثقافة والفكر ، تجده يشعر بأن كل تقصير سيؤثر عليه ، وبأن كل تقدم سيناله منه جانب ، هذا الاهتمام والتعاطي والنقاش يشكل عبئاً إضافياً على الفرد ، يحملّه هم الحاضر والمستقبل ويؤثر على مزاجه وبالتالي سلوكه وأخلاقه ، بينما يشعر الفقير بأنه خارج كل الحسابات ، لذلك فهو لا يهتم إلا بمحيطه الصغير ، منزله والحي الذي يسكنه وعلى أبعد تقدير مدينته التي يقطنها ، هو يعلم يقيناً أنه لن يستفيد من التقدم ولن يتضرر من التأخر ، لذلك فليست له اهتمامات كبيرة تنغص عليه يومه ، فيجد الوقت الكافي للجلوس مع الأقران والاستمتاع بالأحاديث البعيدة عن معترك السياسة وآلات الاقتصاد ، كل همه مكان يجمعه بأطفاله ولقمة عيش تسد جوعهم وبعض المتطلبات الأساسية ، توفر مثل تلك الأشياء البسيطة كفيلة برسم ابتسامة الرضى والسعادة على محياه ، ابتسامة صادقة نقية ربما يفتقدها الكثير من الأثرياء .

ورقي أم إلكتروني ؟

أطلقت وزارة التعليم مؤخراً مشروع التحول نحو التعليم الرقمي عبر شركة تطوير لتقنيات التعليم ، وتوقعت الوزارة بناءً على ذلك وحسب ما أعلنت بأنها ستتوقف عن طباعة الكتب خلال عامين أو ثلاثة أعوام ، وكما نفهم من الإعلان فإن الهدف الحالي هو الاستغناء عن الكتب الدراسية بشكلها الحالي المطبوع وتحويلها إلى مقررات رقمية توضع على أجهزة لوحية ، وممارسة التعليم عبر الوسائط والأجهزة الذكية بدلاً عن الكتب المطبوعة وباستخدام شبكة الانترنت ، حيث صرحت الوزارة أنه بالتزامن مع إطلاق المشروع ، ستعمل على تحسين جودة اتصال الانترنت بالمدارسة وتخفيض التكلفة بالتنسيق مع شركات الاتصالات .
وقبل أن أبين وجهة نظري حول هذا المشروع أودّ أن أشيد بتبني الوزارة خلال الأعوام السابقة لمشروع التعلم النشط والذي ينم عن وعي حقيقي وإدراك لمسألة مهمة ومفصلية في العملية التعليمية حيث بدأ الانتقال من مرحلة التلقين إلى مرحلة التعلم التي يقع الدور الأكبر فيها على الطالب في استنتاج أو اكتشاف أو استقاء المعلومة عبر أنشطة أو أعمال يقوم بها للوصول إلى الهدف ، بحيث لا يتعدى دور المعلم التوجيه والإعداد والتيسير على الطالب ، وقد كانت الوزارة مدركة وواعية في هذا المشروع الضخم والمهم والذي استبشرنا به خيراً أهمية العمل اليدوي للطالب ودوره المهم في ترسيخ المعلومة عبر اكتشافها ولمسها وتشربها .
وبالعودة إلى مشروع التحول الرقمي فإنني سأتناول الموضوع من بعض الجوانب بشكل عام وسريع ثم سأطرح بعض الأسئلة التي أرى أنه من المهم معرفة إجاباتها قبل اتخاذ الخطوة .
بداية ، أعتقد بأنه لم تراعى في هذا المشروع مسألة التطور البنائي والتراكمي للمنظومات المختلفة والتي تحكم البناء وتجعله صلباً في وجه الرياح ، وتعتبر المناهج الرقمية ( في حال سلمنا بأنها مرحلة لابد من الوصول إليها ) في أعلى البناء للمنظومة التعليمية بعد البنية التحتية الأساسية من مبانٍ ومعامل وتجهيزات وتقنيات تعليمية وأنظمة مناسبة للعدد والمكان وبالطريقة الصحيحة ، بالإضافة إلى المناهج ( والتي أعتقد أننا قطعنا شوطاً كبيراً فيها ) والتدريب وغيرها من الأمور الأساسية المهمة ، كما أنني أعتقد بأن مثل هذا التحول يفترض وجود بنية تنموية كاملة مثل وصول الكهرباء والاتصالات بشكل جيد لكافة المناطق التي تقدم فيها الوزارة خدماتها وتوفر مراكز الصيانة والتقنية في هذه الأماكن وقدرة سكانها على التعامل بشكل جيد مع التقنية وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن بالشكل الكافي ، لذلك فإنني أرى أنه كان من الأجدى إطلاق مشروع تهيئة البنية الأساسية للتعليم واستغلال المبالغ التي ستصرف في العمل الذي نكون متأكدين من نفعه.
أما من ناحية الطالب فإنه من المهم البحث عن الآثار الصحية والتربوية في هذا التحول ، ولا شك بأنه كان من الواجب على الوزارة قبل اتخاذ القرار ، إجراء الأبحاث والدراسات الميدانية المكثفة حول مدى فهم واستيعاب الطالب للمعلومة من الجهاز وعن جدوى استعمال المناهج الرقمية وما إذا كان بالفعل سيساعد على زيادة جودة المخرجات أم أنه مجرد شكل لا يقدم ولا يؤخر ، بالإضافة إلى استشارة الأطباء وأخذ رأيهم في مسألة الآثار الصحية المترتبة على كثرة استخدام الأجهزة وكثرة التعرض للأشعة والموجات خلال اليوم الدراسي ، وفي حال كانت هناك بالفعل أبحاث ودراسات أجرتها الوزارة فإننا نتمنى أن تقوم الوزارة بنشرها حتى يطمأن الناس على أبنائهم .
من خلال متابعة لردود أفعال الناس على المشروع توقع البعض أن يكون الهدف اقتصادي متمثلاً في توفير قيمة طباعة الكتب ، وأعتقد أن الأمر ليس كذلك لأننا نعلم بأن إطلاق المشروع في بيئة غير مهيأة سيكون مكلفاً بشكل لا يمكن توقعه وستكون قيمة الأجهزة مرتفعة وصيانتها مكلفة وتجهيزات المدارس فوق القدرات المتاحة ،  كما أنه كان بالإمكان لو كانت الهدف اقتصادي إيجاد البدائل الممكنة مثل وضع قيمة على الكتب يدفعها الآباء مع تخصيص كميات معينة للطلاب أصحاب الدخل المتدني وهي حالات مسجلة ومرصودة في المدارس ولن يمانع أحد من دفع قيمة الكتب إذا كانت معقولة وربما يكون لذلك الأمر أهداف تربوية عديدة .
إن كل ما ذكر أعلاه هو متعلق بموضوع استبدال الكتب الدراسية الورقية بالإلكترونية فقط ، أما استخدام التقنية والكتب والمراجع الرقمية وطرق البحث الحديثة ومنصات التواصل التعليمي وطرق الحفظ والبحث وخلافها فإنها ضرورة بل واجب على الجميع في هذا الوقت ولا بد من باب الإنصاف أن نذكر بأن تحويل المناهج إلى مناهج رقمية له بالفعل إيجابيات عديدة حيث التفاعل والحجم وإدراج الروابط وتخفيف العبء ، على أن تكون رافد مهم وداعم أساسي للمناهج الأساسية ومكمل لها عبر استخدامها للإثراء والتوسع والبحث عن المعلومة لكتابتها أو رسمها أو تشكيلها ، وكنت أتمنى في حال وجود الرغبة غي الانتقال للمناهج الرقمية بالكامل أن يتم تطبيق التجربة في عدد من المدارس ولعدة سنوات ثم قياس النتائج ومعرفة الإيجابيات والسلبيات ثم الحكم بعد ذلك بتعميم الأمر أو التراجع عنه وربما التعديل عليه بما يتلاءم مع الواقع ، كما أنني كنت أتمنى أن يتم أخذ رأي التربويين والمعلمين وأولياء الأمور في استفتاء واسع وشامل وسماع مختلف وجهات النظر .
أخيراً فإنني سأطرح عدد من الأسئلة التي لا أبحث عن إجابة لها بقدر ما أحاول أن أستبق المشكلات التي قد تظهر وألفت النظر إليها :
1-    من سيتحمل قيمة الأجهزة ؟ وفي حال كانت الوزارة هي من سيتحملها فكم المدة التي من المفترض أن يبقى الجهاز مع الطالب حتى يصرف له جهاز آخر ؟
2-    في حال قام أحد الطلاب بإتلاف جهاز زميل له ، من سيتحمل تكلفة الإصلاح ؟ وكيف ؟
3-    كيف سيتعامل المعلم مع مشاكل نفاد البطارية والشحن وتوقف نظام التشغيل خلال اليوم الدراسي ؟
4-    هل سيتم استخدام أجهزة معدة خصيصاً للمقررات أم ستكون من الأجهزة المتاحة بالأسواق وهل يجب على جميع الطلاب الحصول على نفس الجهاز ؟
5-    ماذا لو تعطل جهاز الطالب أو انقطعت الكهرباء أو خدمة الانترنت خلال فترة الاختبارات النهائية ؟
6-    كيف سيكون وضع القرى والمناطق النائية مع الأجهزة ؟ ( وهنا تفاصيل وأسئلة كثيرة جدا ) .

7-    هل تم وضع خطة للتراجع عن المشروع في حال ثبت عدم جدواه أم أننا سنحتاج إلى قرارات وخطط أخرى ؟

استهلاك اللفن

( نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )


يقول أحد الآراء بأن كل شيءٍ يُحدث تغييراً على ديمومة الأشياء أو الأحداث هو نوع من أنواع الفن ، فتحويل شكل صخرة ظلت عليه لقرون إلى منحوتة جميلة فن ، وتغيير شكل الكلمات العادية التي تستعمل على الدوام بهذا الشكل إلى كلمات موزونة ومقفّاة لها أثرها الفني فنٌ أيضا ، هذا الرأي انطلق من مبدأ الديمومة لهنري برغسون الذي طبّقه في كتابه " الضحك " ، لذلك فإن التغيير في الأشياء وفق رؤية ذاتية في البدء هو فن في معناه الشامل الذي يتفرّع ويتحدد إلى مجالات متعددة أخذت رؤاها وقواعدها من خلال التراكم الإنساني عبر العصور .
لقد بدأ الفن منذ العصور القديمة وفقا للحاجات المعيشية التي دعت الفرد لتحويل الحجر الى أداة يستعملها في حياته اليومية ، وجذوع الاشجار الى رماح او سفن ، حينها لم يكن ذلك العمل فناً بمعناه الجمالي بل كان أقرب للحرفة والصنعة ،  لذلك بقيت قيمة الفنانين منخفضة في السلّم الاجتماعي وكانوا في منزلة الحرفيين والصنّاع .
في عصر النهضة الإيطالية بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي ومع ازدهار الفن خصوصاً فن النحت والرسم التي كان الهدف الأساسي منها هو إنشاء المعابد ورسم الرسوم الروحانية للكنيسة ، أدخلت مبادئ الرسم والتركيب الفني في تأسيس الأكاديميات الملكية للفن ، وارتفعت معها قيمة الفنانين ،  في ذلك الحين كانت الرسوم الأسطورية هي الأنبل ثم الطبيعية التي تحاكي جمال الطبيعة ثم الواقعية التي تصور طريقة الحياة اليومية وقد أصبح الرسامون و النحاتون والموسيقيون يقومون بأعمالهم الفنية بناءً على طلبات ورغبات طبقة النبلاء أو المؤسسات الرسمية وفق عقود مكتوبة ومبالغ مالية محددة ومدة زمنية معينة .
ومع بداية القرن العشرين ربط عدد كبير من المؤرخين و العلماء مبادئ الفن بالأنماط الاقتصادية والبنى الاجتماعية الطبقية متأثرين في هذه النظرة بالفكر الماركسي خصوصاً في روسيا وأجزاء كبيرة من أوروبا وأصبح الفنانون وفقا لذلك أعضاء في جماعات محددة لهم أدوار وموضوعات معدة مسبقا وأصبحت الأعمال الفنية تمول وتشترى من قبل أفراد أو مجموعات أو مؤسسات ضمن سوق استهلاكي تحمه آليات العرض والطلب .
خلال الفترة الأخيرة تيسرت كافة الظروف التي تساعد الفن على أن يصبح في عزلة عن كافة المتطلبات التي تحاصره ، خصوصاً مع انتشار الآلات والمطابع والمكائن والكاميرات التي قد تقوم بمهمة الفنان القديمة التي تطلب منه ، ولكن ما حصل للأسف أنه ومع سيطرة المادية والنفعية على أسلوب الحياة في ظل تراجع المعاني الإنسانية والذاتية أخذ الفن بجميع أنواعه ينخرط ضمن الآلة الاقتصادية الضخمة التي تدير العالم ، وتحولت قيمة العمل الفني من أثره الفني على المتلقي إلى قيمته المالية التي بيع بها أو الأرباح المالية التي حققها حتى وصلنا اليوم إلى أن الإعلان عن أي عمل فني يتم من خلال قيمته المادية وليست الفنية .

إن سيطرة المادية على الفن تخنق الإبداع فيه وتجعله مرهوناً لمتطلبات ومعطيات السوق ، من سيشتري ؟ وبكم ؟ وأين ؟ وتستمر الأسئلة حتى يبرز السؤال الأخطر ما الفائدة من أي عمل فني إذا لم ينخرط ضمن آليات البيع والشراء ويكسب ؟ ، وهذه النتيجة هي أمر حتمي لنزعة الاستهلاك التي طالت الفن ضمن ما طالته من قيم إنسانية أهم من قبله حيث أصبح الأمر فيها يقاس بالربح والخسارة فقط .

أيهما أسبق .. الفكرة أم الواقع ؟


( نشرت في جريدة الوطن ) 

عندما يتم النقاش حول مشكلة اجتماعية ما ويرغب المتناقشون في طرح الحلول نجد أنهم في الغالب ينقسمون إلى فريقين ، الأول يرى ضرورة توعية الناس ونصحهم للحد من تلك المشكلة بينما يرى الفريق الآخر ضرورة سن القوانين الصارمة للحد من تلك المشكلة ، الفريق الأول يرى الحل في تغيير الأفكار بينما يرى الفريق الآخر أن تغيير الواقع مباشرة هو الحل ، وهذا الاختلاف في الرؤية يشبه كثيراً الفرق بين من يرى بأن السعي لمستقبل مشرق لابد أن يبدأ ببناء الإنسان عبر التعليم والتربية وبين من يرى بأن النهضة تتم عبر فرض واقع اقتصادي ووظيفي جديد يغير المجتمع نحو الأفضل .
على مستوى الدول والأمم في سقوطها ونهوضها نلاحظ أيضاً بأن هنالك دول عديدة نشأت أو تلاشت عبر أفكار مسبقة وضعت على يد مفكرين أو فلاسفة بينما دفعت ظروف الواقع دول أخرى إلى النهوض أو السقوط دون وجود أفكار مسبقة .
الجدل حول أسبقية الفكرة أو الواقع جدل قديم جديد ، ويتغير شكله متخذاً عدة أشكال سواءً كانت على مستوى الرؤية أو التطبيق ، وقد لا يتضح بأن هذا الجدل هو أساس الاختلاف في كثير الأمور إلا عند استحضاره وفهمه من كافة جوانبه ، من جهة أخرى فإنه بالإمكان ملاحظته من خلال سماع حديث بعض المسؤولين حين يتحدثون عن خططهم ورؤيتهم لتطوير إدارتهم أو حين سماع تعليق لأحدهم حول أحداث أو حلول معينة . ولا يعرف كثير من الأشخاص العاديون أنهم يؤيدون ذلك التوجه أو التوجه الآخر إذ أن مثل هذه الرؤية تكون مختبئة داخل تفكير الإنسان ، لكنها تظهر ويمكن ملاحظتها من خلال مناقشته أو معرفة رؤيته حول بعض الأمور .
كثيراً ما نلاحظ طرح بعض الحلول أو التفسيرات بطريقة تسعى إلى الجمع بين الأمرين ، كأن يتم إطلاق حملة توعوية لمعالجة أمر ما بالتزامن مع البدء في سن القوانين التي تمنعه وتعاقب مرتكبه ، في الغالب نجد مثل هذه الحلول التي تحاول السير على الاتجاهين تركّز عملها على ناحية دون الأخرى لأنها تؤمن بأنه هو الحل وإن لم تصرّح بذلك ، كما نلاحظ على صعيد التطبيق بأن أحد الأمرين كان هو الحل بالفعل ولم تكن هنالك حاجة حقيقية للأمر الآخر .

وعلى مستوى الواقع الآن ومن خلال التجارب وملاحظة النتائج نلاحظ دوماً بأن التغيير الاجتماعي لا يحصل إلا عبر فرض القوانين والتغييرات على أرض الواقع خصوصاً في الأمور المهمة والملحة والتي لا تقبل التأجيل بينما وعلى مستوى التغييرات الكبرى وبعيدة الأمد فإنه من المهم بذل الوقت والجهد في وضع التصورات والرؤى وطرح الأفكار قبل التنفيذ وكلما وضحت الأفكار وتعمقت وفهمت كلما كان أثرها أكبر وتطبيقها أسهل . ولابد من الإشارة هنا إلى ضرورة أن يكون صانع الأفكار بعيد عن ميدان العمل والعكس صحيح ، وهذا ما نلاحظه في التجارب الناجحة لنهوض الأمم في السابق حيث قامت على أفكار فلاسفة ومفكرين كانوا بعيدين جداً عن معترك السياسة والاقتصاد .

اللحظات الفارقة

( نشرت في جريدة الرياض )

نسمع كثيراً ممن يشجعون الآخرين على الإنجاز والإبداع يقولون أن ذلك العالم الفذ أو ذلك المخترع العظيم كان يوماً من الأيام تلميذاً فاشلاً أو مصاباً بمرض عقلي أو نفسي ما ، وفي نفس الوقت نسمعهم يقولون بأنه من المفترض أن يجتهد الطالب ويتفوق في دراسته ويحظى برعاية جيدة حتى يصبح ذو شأن حينما يكبر !
كما نعرف كثيراً من الناس الذين نشأوا في بيئة واحدة وتعرضوا لنفس الظروف ولهم نفس القدرات أصبح بعضهم ناجحاً في حياته بينما أصبح الآخرون فاشلون فيها بشكل كبير ، كما نلاحظ كثيراً أيضاً بأن عدداً من الأسر التي تكني أطفالها بكنىً مثل دكتور أو مهندس أو عالم لتشجعيهم على أن يصبحوا كذلك ، قد أصبحت فيما بعد تعاني من فشل أبنائها بشكل كبير ، بينما أصبح بعض أبناء جيرانهم أو أقاربهم الذين لم يكونوا يهتمون بتشجيع أبنائهم ورعايتهم دكاترة ومهندسين أو على الأقل ناجحين في حياتهم ، كذلك الحال مع أبناء ذلك الملتزم الذي كان يحرص على تربية أبنائه تربية دينية صارمة وحين كبروا لم يلتزموا به كما كان متوقع منهم بل إن أبناء الآخر المتساهل أصبحوا أكثر التزاماً منهم .
مثل هذه الأمثلة التي نلاحظها كثيراً في محيطنا تجعلنا نفكر في كيفية تكوين الفرد الصالح الناجح في حياته بشكل عام وفي طريقة تكوين ذلك الآخر الفاشل ، هل كانت التربية هي السبب ؟ أم القدوة ؟ أم البيئة ؟ أما ماذا بالضبط ؟ وكل ما قلنا بأن هذا أو ذاك هو السبب وجدنا أن عدداً كبيراً من الناس يخالف تلك القاعدة ، وبأن هذا العدد يدل على أنهم ليسوا حالات شاذة ، بل أن ما نتوقع أنه السبب هو ليس في الواقع السبب الحقيقي بل هي مجرد رؤيتنا التي نتوقعها ، مما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي :
ما الذي جعل الناجح الذي لم يحظ بما يؤهله ليكون ناجحاً ، ليصبح ما هو عليه اليوم ؟ وبالمقابل ما الذي جعل الفاشل الذي تلقى كل ما يؤهله ليكون ناجحاً ، فاشلاً ؟
في اعتقادي أنها ( اللحظة الفارقة ) نعم إنها تلك اللحظة التي حدث فيها للفرد أمر ما شكّل منعطفاً هاماً في حياته أخذه إلى طريق النجاح أو طريق الفشل ، تلك اللحظة هي التي رسمت للفرد طريقه المستقبلي الذي سيسلكه بقية عمره دون أن يكون قد أعد له سلفاً ، اللحظة الفارقة هي تلك اللحظة التي قد تنسف كل ما مضى من تربية ورعاية وتعليم أو ترمم وتعالج كل القصور الذي حدث فيها ، ليس هناك وقتاً محدداً للّحظات الفارقة ، قد تأتي للفرد في طفولته أو شبابه أو بعد ذلك ، قد تكون تلك اللحظة مكافأة من معلم أو عقاباً منه ، وقد تكون قبول في جامعة أو مركز معين أو رفضها له ، قد تكون لحظة إلهام بفكرة جيدة أو شيطانية ، وقد تكون لحظة تعرف على صديق جديد رائع أو سيء سيؤثر عليه مستقبلاً ، قد تكون حادث أو تعلم مهارة أو علم جديد وقد تكون لقاء عابر بآخر عرض عليه أمر غير متوقع .
لو تأملنا حياة الناجحين أو الفاشلين من حولنا سنجد أن لكل منهم لحظات فارقة في حياته غيرت مسيرته ، قد نعرفها وقد لا نعرفها إلا بعد سؤاله عنها .
بقي أخيراً أن نتساءل :
هل يشترط أن يكون لكل شخص لحظة فارقة في حياته ؟ وهل يمكن توقع اللحظات الفارقة والإعداد لها ؟ هل يمكن أن تكون لنفس الشخص لحظات فارقة متعددة في حياته ؟ وهل نستطيع صنع لحظات فارقة لأنفسنا او لغيرنا ؟


العقل وعلم الأخلاق العربي

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

تأثرت الثقافة العربية بعدة عوامل ساهمت بتشكلها كما هي اليوم ، أهم هذه العوامل هو الموروث العربي القديم خصوصاً الشعر ثم الدين الإسلامي بالإضافة إلى العقل اليوناني والفارسي القديم ، لذلك فإن أي دراسة تريد أن تحفر في أعماق هذه الثقافة لا بد أن تناقش الأمر من خلال هذه المحددات للوصول إلى رؤية أشمل وأدق ، ومن هذا المنطلق يورد محمد عابد الجابري في كتاب العقل الأخلاقي العربي الذي يأتي ضمن سلسلة نقد العقل العربي وتحت فصل ( أيهما يؤسس الأخلاق .. العقل أم النقل ؟ ) عدة مقولات وآراء من تلك الثقافات  التي شكلت العقل العربي للإجابة على السؤال عنوان الفصل ، بعد أن يبرر ضرورة عدم الركون للتفسيرات السيكولوجية أو الاجتماعية  أو الاكتفاء بجعل الدين أو الضمير أساساً لعلم الأخلاق بسبب نسبية الأخلاق واختلاف الحكم على السلوك الواحد في زمانين أو مكانين مختلفين في نفس الثقافة أو من ثقافة لأخرى مما يوجب ضرورة التأسيس لعلم أخلاق شامل وكلي نابع من ثقافة أصيلة .
نعلم بأن الدين الإسلامي يغطي جميع مظاهر الحياة بأحكامه وتشريعاته إما بشكل صريح عبر أحكام واضحة وردت فيها نصوص صريحة أو ضمناً عبر الأمر بإعمال العقل في الاجتهاد والبحث لاستخلاص الأحكام خصوصاً فيما ترك الإسلام له مساحة للاجتهاد من متغيرات لا بد أن يستمر الفقهاء في مواكبتها لتحقيق مقاصد الشريعة والأهداف الكلية منها ، وعليه فإن العقل في الدين الإسلامي هو مصدر معظم الأحكام المتعلقة بالأخلاق من خلال المراجعة الدائمة والتجديد المستمر للأحكام وفق النصوص الثابتة بما يوائم بين المستجدات والمقاصد ،  حيث أن الأخلاق في معظمها أمر متغير ومختلف فيه كما أن الكثير منها متروك في الشريعة للاجتهاد والعرف السائد ، أما على مستوى اللغة والأدب وهو ما يطلق عليها الجابري ( الموروث العربي الخالص ) فإننا نجد بأن الأخلاق غالباً مرتبطة بالعقل ، فقد ورد في لسان العرب تحت توضيح مفردة العقل ، أن العقل هو ما يزجر صاحبه عن القبائح وأن العقل هو عقل اللسان ومعناه صونه عن الألفاظ القبيحة  ، ولم ترد الأخلاق مرتبطة بمفردة ( العقل ) أو مشتقاتها فحسب ، بل وردت كثيراً من خلال مفردات متعلقة بها من حيث المعنى مثل النهى أو الذهن أو الفكر أو الفؤاد وغيرها من المفردات ، ، كذلك وفي هذا الموروث الخالص ارتبط العقل بالمروءة وقيل في هذا ( لا مروءة لمن لا عقل له ) ونعلم بأن المروءة قيمة مركزية في الثقافة العربية وارتباطها بالعقل يدل على أن العقل هو أساس الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الخالص ، ونشير هنا إلى ما قال به بعض المستشرقين في مسألة خلوّ اللغة العربية من مفردة الضمير الذي يتعلق في الثقافة الأوروبية الحديثة أو اليونانية القديمة بالأخلاق عبر ما يسمى بالضمير الأخلاقي ، والهدف من قولهم هذا بيان ضعف الجانب الأخلاقي في الثقافة العربية لأنها من وجهة نظرهم لم تحتوي على مفردات تؤسس لعلم أخلاقي عربي ، ولكن الحقيقة أن مفردة ( الضمير) في اللغة العربية موجودة ولكنها لا تمثل الأخلاق فقط بل تحيل إلى معانٍ أخرى مختلفة عنها ، وللأخلاق في اللغة العربية عدة ألفاظ متعلقة بها كما ذكرنا أعلاه ربما لم يدركها المستشرقون كما ينبغي ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن غياب المفردات المتعلقة بأمر ما في ثقافة معينة لا يعني بالضرورة غياب مفهومها عن تلك الثقافة وهو ما لاحظه المستشرق جولدزيهر الذي ردّ بهذا القول على زعم المستشرقين الآخرين .
بالانتقال إلى مصدري الثقافة العربية الآخرين وهما الثقافة الفارسية واليونانية القديمة يورد الجابري العديد من الشواهد التي تؤكد ارتباط الأخلاق بالعقل في تلك الثقافات خصوصاً فيما تمت ترجمته أو كتابته باللغة العربية كما فعل ابن المقفع أو الفلاسفة العرب كابن رشد وغيره ، وفي علم الكلام العربي الذي تأثر كثيراً بتلك الثقافات مما يدل على علو قيمة العقل سابقاً وإعماله في استخلاص الأحكام الأخلاقية وما يتعلق بها .

من خلال العرض الموجز للعلاقة بين الأخلاق والعقل نلاحظ بأن الثقافة العربية مليئة بالألفاظ والمفاهيم والاساليب التي يمكن أن تكوّن أساساً لبناء علم أخلاق عربي بالمفهوم اليوناني أو الأوروبي ، وأنه لا يوجد عائق يقف أمام استكمال وصياغة هذا العلم بشكل مستقل وكامل وشامل ، ونختم المقال بنهاية مفتوحة من خلال طرح السؤال الذي ختم به الجابري مقولته : لماذا لم يظهر في الثقافة العربية علم مستقل للأخلاق على الرغم من كثرة العلوم العقلية فيها ؟

كب كيك

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

نلاحظ خلال السنوات الأخيرة سيطرة عدد من الشركات أو الأسماء الكبيرة على أنشطة تجارية معينة بحيث يسيطر كل اسم على نشاط معين من خلال افتتاح عدد كبير جداً من الفروع أو الاستحواذ على محلات مشابهة لنشاطه بعد أن يخرجها من دائرة المنافسة ، هنالك من سيطر على أسواق الملابس وآخر يسيطر على الصيدليات وثالث على محلات البقالة الكبيرة وهكذا ، هذا الأمر بالإضافة إلى سيطرة العمالة الوافدة على المحلات الصغيرة التي تخدم معظم الناس في حياتهم اليومية جعل الدخول للسوق بغرض التجارة للمواطن العادي أمر محفوف بمخاطر الخسارة والفشل مما دفع بالكثيرين إلى البحث عن مشاريع جديدة لم تنفذ بعد ، أو تطوير خدمة معينة بطريقة مختلفة تجذب الزبائن وتمنح المحل التجاري ميزة إضافية لا تتوفر في المحلات الأخرى .
إن البحث عن المشاريع الجديدة التي تحمل طابع الإبداع أو الابتكار أمر جيد وطريقة رائعة لتجديد المنتجات وبالتالي خلق فرص عمل عديدة واتجاهات اجتماعية جديدة على أن يكون هذا الإبداع شامل لكافة المجالات وبشكل متوازن حتى تتحقق الفائدة ، وهذا يدفعنا إلى استحضار موضوع انتشار ثقافة ريادة الأعمال بشكل واسع وكثرة المتحدثين فيها وإبراز بعض النماذج الناجحة التي أنشأت مشاريع حققت مكاسب وشهرة واسعة وحث الناس على الاتجاه في هذا الطريق .
من خلال ملاحظة ومتابعة بسيطة للمشاريع التي يفترض أن تحمل الطابع الإبداعي ، نلاحظ أنها تتركز في غالبيتها على أمرين ، الأول هو الغذاء خصوصاً الحلويات والأمر الآخر هو التوصيل ( لحد باب بيتك ) حتى أن الحماس لهذه الفكرة وصل بأحدهم أن طرح مشروع فرن محمول على شاحنة يخبز لك الخبز أمام منزلك ، طبعاً لا أقلل من قيمة المشروع بقدر ما أؤكد على أن مسألة التوصيل أصبحت تستحوذ على الاهتمام فعلاً .
لا زالت التبعية والتقليد والخوف من المبادرة هي النمط المسيطر اجتماعياً ، وهذا ربما ما يفسر لنا تشابه الكثير من المشاريع الشبابية التي يتوقع أن تحمل طابع الإبداع والتجديد فنلاحظ أن المشاريع أصبحت  مثل ( الموضة ) تظهر وتغيب فجأة كما تنتشر فجأة تقليعة ملبس أو تسريحة شعر فبمجرّد توجه شخص أو اثنين لمجال معين تجد أن الجميع يحصر تفكيره ورؤيته للدخول في هذا المجال وفي الغالب بنفس الطريقة وبعد فترة يخفت بريق هذا النشاط فيغلق الجميع أبواب محلاتهم .
إن السمات الشخصية التي يتمتع بها الشاب أو الشابة أحد أهم العوامل التي تؤثر بشكل مباشر في شكل الإبداع والتجديد في المشاريع الشبابية الجديدة ، فالإبداع في شتى المجالات ومن ضمنها المشاريع التجارية يتطلب تربية مبكرة على طريقة التفكير خلافاً للسائد عبر دمج مهارات التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية أو من خلال تقديمها للأطفال والمراهقين على هيئة برامج مستقلة عن طريق مدربين متخصصين في التدريب على التفكير بأنواعه ، كذلك من الأمور التي يجب أن تتوافر في الشخصية حتى تفكر وتبدع أن تكون الشخصية مستقلة غير تابعة في اتخاذ القرار لا تنتظر دائماً الحلول الجاهزة ، من جهة أخرى فإن عدم وجود مؤسسات مجتمعية تهتم بتوعية وتدريب ومساعدة الشباب والشابات بشكل حقيقي وواقعي على البدء في مشاريعهم المبتكرة يعيق التقدم التجاري لديهم ويكبدهم خسائر فادحة ، نعم هنالك مجموعات قائمة على مثل هذه الأعمال في مختلف المدن والمحافظات لكن الغالب على عمل هذه المجموعات هي النخبوية وتركيزها على مجموعة من الأشخاص والمشاريع التي نراها تتكرر في كل لقاء أو مؤتمر متعلق بريادة الأعمال والمشاريع الشبابية الإبداعية .
ولا بد أن ننوّه هنا بأن المجالات التي تحمل فرصاً تجارية بإمكان الشباب والشابات الإبداع فبه عديدة ومتنوعة فهنالك المجال الصناعي أو الخدمي أو مجال المعرفة والترجمة والتدريب وغيرها الكثير من المجالات التي تحمل بداخلها العديد من الفرص الرائعة والمنتجة والتي تعود بالنفع الحقيقي لكنها تحتاج فقط بعضاً من البحث والتفكير بشكل مختلف بعيداً عن الكب كيك والشاي على الجمر .

التاسعة مساءً

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

تداول المواطنون في المملكة العربية السعودية منذ يومين خبر يفيد بقرب تطبيق قرار إغلاق المحال التجارية عند التاسعة مساءً على نطاق واسع وفي كل الوسائل ، وكانت التوصية بهذا القرار قد رفعت للجهات المسؤولة سابقاً من قبل المجتمعين ضمن الحوار الوطني الأول الذي أقيم في مدينة الرياض عام 1433 هـ بمشاركة جميع أطراف الإنتاج من أصحاب العمل ووزارة العمل بالإضافة إلى مشاركة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ، وقد جاء هذا الحوار تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين آنذاك الذي وجّه بأن يكون ملف سوق العمل موضوع هذا الحوار ، بعد ذلك أخذ القرار حقه الكامل من الدراسات والاستشارات حتى تم إقراره مع تعليق تنفيذه حتى يحين الوقت المناسب لذلك .
من خلال متابعة ردود فعل المواطنين خلال اليومين الماضيين تجاه هذا الخبر نلاحظ زيادة كبيرة في نسبة المؤيدين للقرار ، حيث ارتفعت هذه النسبة أمام نسبة غير المؤيدين له مقارنة بالعام السابق حين تم الإعلان عنه ، كما يلاحظ أن معظم الذين لا يؤيدونه بنوا وجهات نظرهم بناءً على رؤيتهم له من ناحية اجتماعية فقط تتعلق في مجملها بأسلوب الحياة العامة للأسرة والأفراد وظروفها الاجتماعية .
لقد ذكر العديد من المسؤولين والاقتصاديين خلال حديثهم عن القرار بأنه قرار اقتصادي تنموي بالدرجة الأولى الهدف منه تحسين بيئة العمل الخاص وجعلها جاذبة للموظف السعودي الذي يحتّم عليه تواجده في بلده مسؤوليات عائلية واجتماعية لا يمكن تلبيتها مع طول ساعات الدوام في المحلات التجارية والذي يصل في كثير من الأحيان إلى ما بعد منتصف الليل ، والجميل هنا أن هذا القرار سيأتي كما ذُكر متزامناً مع قرار تحديد ساعات العمل بثمان ساعات يومياً كحد أقصى ، وهذا ما سيحد من تسرب المواطنين من وظائف القطاع الخاص خصوصاً المتعلقة بمحلات البيع في الأسواق الكبيرة .
كما نعلم فإن وزارة العمل ومن خلال عدة قرارات تسير باتجاه المساواة بين مميزات العمل في القطاعين العام والخاص هو توجه مفيد ومهم سيساهم بشكل كبير في تخفيض نسب البطالة وتخفيف الضغط على الوظائف الحكومية ، كما أنه سيسهم في تحسين البيئة الاجتماعية من خلال مساعدة الموظفين على الاستقرار الوظيفي وبالتالي تمكنهم من تكوين أسر مستقرة تحظى برعاية رب الأسرة خلال الأوقات التي يفترض تواجده فيها في المنزل كما أنه سيساعد الموظفات من النساء اللاتي يعملن في محلات بيع التجزئة الخاصة بالمستلزمات النسائية على الإيفاء بمتطلباتهن الأسرية والاجتماعية .
إن غالبية الأمور التي يخشاها الذين لا يؤيدون هذا القرار قد تحدث عنها وزير العمل وبقية المسؤولين وأفادوا بأنها محل نظر ومراعاة وبأن هناك استثناءات لمحلات عديدة لا بد من بقائها مفتوحة لوقت متأخر مثل الصيدليات ومحطات تعبئة الوقود وبعض المطاعم وخلافه ، كما أفادوا بأن هناك نظام جديد تتم دراسته وربما سيصدر بالتزامن مع القرار فيما يخص المحلات التي تفتح أبوابها طوال اليوم للمتسوقين .

التخوف من التغيير قبل صدور أي قرار يمس الحياة الاجتماعية المعتادة هو أمر طبيعي ومتوقع دوماً ، ولا يلام صاحبه أبداً إذ أن الإنسان دوما يسعى إلى المحافظة على نمط حياته ولا يريد أن يطرأ عليه أي اختلاف لا يكون متأكداً من إن كان سيناسبه أو لا ، لكني أتوقع بشكل عام أن يساهم القرار في تحسين الكثير من العادات الاجتماعية التي تحتاج إلى تحسين فيما يخص الأوقات ، نعم قد يكون هذا التحسين بطيئاً وربما يستغرق وقتاً طويلاً ، لكن في النهاية سيعتاد الناس على عادات أفضل وسيحقق القرار بإذن الله إلى جانب هذا الأثر الاجتماعي الايجابي آثاره الاقتصادية والتنموية المنشودة .

الفكرة بين المثالية والتطبيق

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

( إن طوراً جديداً في التاريخ العالمي قد بدأ ، حيث لم تعد أسباب النزاعات كما كانت في السابق اقتصادية أو إيديولوجية أولية بل أصبحت النزاعات والانقسامات ثقافية )
هذا ما تنبأ به وكتبه المفكر السياسي صاموئيل هنتجتون في مقالة نشرت عام 1993 م ، وقد طوّر فكرته لاحقاً وحولها إلى مشروع صدر في كتاب مهم تحت عنوان ( صراع الحضارات ) تناول فيه أطروحته بشكل مفصل ، واليوم وبعد أن وضعت العولمة أوزارها وبرزت الثقافات المختلفة من جديد نلاحظ أن شيئاً من تلك الرؤية قد ظهر وأصبح واقعاً يعيشه الناس بعد أن انتقل من عالم الأفكار المثالي إلى عالم الواقع الملموس . وهنا يبرز السؤال القضية : هل كان بالإمكان مجابهة هذا التحول وتعديل مساره ؟
الثقافة هي رؤية المجتمع للأمور وطريقة تفكيرهم فيها حيث تترجم في العادة إلى سلوك ، وتتكون الثقافة وتتشكل عبر تراكمات طويلة الأمد من الأديان والفنون والحضارات والأحداث والتجارب المختلفة ، وتخضع دوما للتطور أو التراجع وفق الظروف والأحداث المستجدة ، وتتكون عادة في العقل الجمعي اللاواعي حيث يصعب تحديد الدوافع الثقافية الكامنة خلف التطورات إلا عبر شواهد كثيرة وأحداث مختلفة وفي أوقات لاحقة يكون الظرف الثقافي قد انتهي فيه من التشكل وأصبح واضح المعالم ، ويتم عادة إدراك التحولات عن طريق المفكرين والمهتمين بهذا الشأن ، وعلى الرغم من كثرة الأبحاث والدراسات والجهود التي يبذلها علماء الفكر والاجتماع وغيرهم للتحكم في سيرورة ثقافة المجتمعات إلا أنها تسير دوماً كما تريد وفق معطيات وظروف لا يمكن التحكم بها .
وقد ذكر ابن خلدون ضمن مبادئ علم الاجتماع أن قوانين هذا العلم تفعل فعلها في الجماعات ولا تتأثر بصورة كبيرة بالأفراد والأحداث المنعزلة ، وقياساً على الأمثلة التي ساقها فإن المحاولات التي قد يقوم بها الذين يدّعون أو يحاولون الإصلاح قلّما تصادف النجاح لأن جهود الأفراد سرعان ما تكتسح من قبل التيار الجارف العنيف الذي تمثله القوى الاجتماعية المتأثرة بالثقافة المترسخة في العقل اللاواعي .
ومن هنا فإنني أرى بأن دور المفكر والمثقف صاحب الرؤى والأفكار يتوقف عند طرحها عبر الكتب والمقالات الجادة والرصينة ووسائل الإعلام المختلفة ، وأن يُبقي ما يراه في حدود النقاش والتعاطي المثالي بعيداً عن أي محاولة لفرضه على أرض الواقع ، حيث أن تطبيق تلك الأفكار لا يمكن أن يتأتى عبر الممارسة الواعية بل تبقى الأفكار حتى تنضج ويحين وقتها ليجدها هو أو من يأتي بعده تتغلغل في النسيج الاجتماعي بكل هدوء ووفق رغبة وضرورة ودون أي ممارسة متعمدة . ولو تأملنا قليلاً في التاريخ القديم أو الحديث سنلاحظ بأن معظم الذين حاولوا تطبيق أفكارهم مباشرة قد قتلوها من حيث أرادوا لها الحياة ، وبأن أكثر التحولات الثقافية التي حصلت عبر التاريخ لم يكن أحد يستطيع أن يفرضها بالطريقة التي حصلت بها ، مقابل ذلك فإن تفسيرها وتحليلها لاحقاً كان أمراً منطقياً وواضحاً وقابلاً للفهم والاستيعاب .

الوظائف في الأزمة الكبرى

( نُشرت في صحيفة خليجي بوست )

يشغل معظم مواطني أي بلد أو إقليم وظائف تلائم طبيعة بلادهم ومواردها ، فمعظم الناس في الدول الصناعية يشتغلون بالصناعة بينما يشتغل سكان المناطق الزراعية بالزراعة وهكذا ، ويكون هذا بالطبع في أوقات السلم والاستقرار والأوضاع الطبيعية ، أما في حال حدوث أزمات سياسية أو اقتصادية أو في حال الكوارث الطبيعية أو الحروب فإن شيئاً من التغيير يحصل غالباً على خارطة الأعمال والوظائف .
الأزمة هي حالة حرجة غير مستقرة تحدث نتيجة تغيير مفاجئ – وأحياناً متوقع – أول مراحلها الصدمة والارتباك وعدم الوضوح في الرؤية ، بعد تلك المرحلة تأتي مرحلة إدراك المشكلة والتعامل معها والتي يتم خلالها في كثير من الأحيان حدوث التغييرات لمواجهة الأزمة ، وتشمل هذه التغييرات في الغالب وظائف بعض الناس وأعمالهم بشكل مؤقت لتجاوز الأزمة والتعامل معها . ففي حال الأزمات الاقتصادية يفقد الكثير من الموظفين خصوصاً في الدول الصناعية أعمالهم ويتجهون إلى وظائف أدني ، وفي حال الكوارث الطبيعية يتجه الكثير من الناس لمجالات الإنقاذ والمساعدة وفي أوقات الحرب قد يتجه البعض إلى مجالات تتعلق بالحرب كالتجنيد أو الخدمة العسكرية ، كل تلك الأعمال المؤقتة أعمال أخلاقية مطلوبة . يقابل ذلك فئة من الناس تتجه لاستغلال الأزمات بشكل غير أخلاقي من خلال التكسّب عبر ممارسات فيها استغلال للمنكوبين أو عمليات نهب أو تهريب وخلافه ، لكن الأمر ينتهي مع انتهاء الأزمة وعودة الحياة الطبيعية واستتباب الأمن .
إن الصراع القائم في بعض الدول العربية والحروب المستمرة هي أزمة كبرى طال أمدها ، وانعدمت معها الحياة المدنية الطبيعية في كثير من الدول بل وامتد أثرها ليشمل المناطق الحدودية للدول المجاورة لها ، وتبعاً لهذه الأزمة انقسم الناس بين لاجئ ونازح وصامد تحت وطأة الرصاص والفقر ، بينما نشط تجار الحروب ومستغلّو الأزمات بين مهرّب للبشر وتاجر للسلاح وإعلامي غير نزيه يحلل ويؤجج الصراع لا يزيدهم طول أمد الصراع إلا مزيد من الكسب والتغوّل لتصبح في الغالب هذه المهن غير الشريفة مهنهم الأصلية التي يسعون بكل الطرق لتوسيعها وجعل شبكاتها ومنظماتها ممتدة حول العالم من خلال استقطاب المزيد من الكوادر التي تحولت مع طول الأزمة وانعدام الأمل من المواطنة الصالحة إلى هذه الأعمال المشينة .

وبما أن الإنسان سريع التكيّف مع الأوضاع الجديدة فإن الخوف كل الخوف أن يمتهن بعض الناس مهناً لا يمكن أن تمارس في الأوضاع الطبيعية مما يجعل العودة للحياة المدنية أمراً معقداً  للغاية لا يقل صعوبة من الأزمة الحاصلة ، لذلك فإن هنالك مسؤولية كبرى تقع على المنظمات الدولية والدول كافة في المحافظة على تجمعات اللاجئين أو النازحين وفق ظروف مدنية يمارس فيها كل صاحب مهنة  مهنته ولو بأجر زهيد ، وأن تكون مدناً مصغرة تضمن للجميع حياة عادية وألا يكتفى فيها بالمساعدات دون عمل قدر الإمكان ، ولا نعلم فربما كما حدثت الأزمة فجأة أن تنفرج فجأة وتعود المياه كما يقال لمجاريها .

إيجابيات انخفاض أسعار النفط

( نُشرت في صحيفة خليجي بوست )

دعا صندوق النقد الدولي مؤخراً حكومات دول الخليج العربي إلى السعي نحو تنويع مصادر الدخل وعدم الاكتفاء بعائدات النفط او الغاز الطبيعي كمصدر دخل شبه وحيد للدولة ، وقد كان ما دعا إليه المجلس هو الهدف المشترك والأهم في جميع الخطط الخمسية للمملكة العربية السعودية والتي بدأت بوضعها منذ العام 1970 م ، ورغم ذلك فإننا نلاحظ أن نسبة العائدات غير النفطية لم ترتفع بالشكل المأمول والمطلوب .
لقد تعرضت أسعار النفط للعديد من التقلبات والانخفاضات خلال العقود السابقة لكن دول الخليج خصوصاً المملكة العربية السعودية كانت قادرة على تجاوزها بسبب استقرار الأوضاع الداخلية والخارجية وقلة المشاريع المنفذة وبسبب ظروف اقتصادية معينة تساعد على تجاوز الأزمة .
واليوم نلاحظ أن النفط قد فقد ما يقارب نصف قيمته خلال فترة قصيرة ، هذا في الوقت الذي تشهد فيه الملكة العربية السعودية نهضة تنموية كبرى في شتى المجالات ولم تنه بعد مشاريعها التي بدأتها معها ، كما تزامن ذلك مع بعض الظروف السياسية والأمنية بالمنطقة ، وكل تلك الظروف بلا شك تحتاج إلى مزيد من الإنفاق لتجاوزها وأدائها على الشكل المطلوب في ظل عدم موائمة الظروف كما كان في السابق وعدم قدرة الفكر والطريقة السابقة على إيجاد الحلول الناجعة للأزمة والتعامل معها ، وذلك ما دعا الدولة إلى التحرك السريع والجاد في وضع الخطط البديلة وإصدار بعض القرارات السيادية التي تحسّن الوضع الاقتصادي ، وقد بدأ مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بوضع برنامج التحول الوطني مبتدئاً بورشة عمل شارك فيها ممثلون لمختلف شرائح المجتمع لوضع المقترحات والتصورات المبدئية للبرنامج ، ويتضح من خلال هذه البداية أن طريقة وضع وتنفيذ البرنامج تختلف تماماً عن طريقة وضع الخطط السابقة وآليات تنفيذها وهذا التحوّل في حد ذاته نقطة إيجابية مهمة ساهم انخفاض سعر النفط حالياً في صناعتها .
نعلم أن انخفاض سعر النفط سوف يؤدي مباشرة إلى تأجيل بعض المشاريع التي يمكن تأجيلها ، ولهذا الأمر انعكاسات اجتماعية إيجابية لا حصر لها ، فتوقف المشاريع - رغم صعوبته وأثره على التنمية – يعني الاستغناء عن خدمات عدد كبير من العاملة الوافدة والذي يؤدي بدوره إلى تخفيف الضغط على البنية التحتية والمواد المدعومة من الحكومة وانخفاض الازدحام المروري وزيادة نسبة السعودة وغير ذلك من الإيجابيات المترتبة على ذلك الأمر ، كما أن تأجيل المشاريع في حد ذاته فعل إيجابي حيث أنه يكبح جماح النمط الاستهلاكي الذي نعاني منه ، فقلّة الموارد تجعلك تركّز على ما تحتاج إليه فعلاً .

إن تغيير طريقة التعاطي مع المستجدات المختلفة والرغبة الجادة في إيجاد الحلول المستدامة سيجعلنا نطوّر ونحسّن الكثير من المفاهيم التي ظلت راسخة لعقود في الأذهان ، كما أن توحيد الرؤى بين الحكومة والشعب وصناعة الأهداف المشتركة أمر بدا جلياً في الفترة الماضية ، كل هذا سيجعلنا أفضل وأقدر على التعامل مع المشكلات على المدى البعيد ، وقد يرتفع سعر النفط لاحقاً وسيكون عندها التخطيط واستغلال الارتفاع بشكل أفضل وأكثر فائدة لنا وللأجيال القادة ، حينها سنحمد الله كثيراً على هذا الانخفاض الحاصل . 

التفكير الإبداعي 2

( المقالة نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )

فرّقت في المقال السابق الذي نشر تحت عنوان ( التفكير الإبداعي ) بين نوعين من التفكير وهما التفكير التقاربي والتفكير التباعدي ، وكان التركيز على التفكير التباعدي خصوصاً الإبداعي منه ، وفي هذا المقال واستكمالاً لما طرح في المقال السابق سأتحدث بشكل عام عن بعض الآراء والنظريات حول التفكير الإبداعي ، لأن معرفة مثل هذه الآراء والنظريات سيزيد من وعينا بعملية التفكير مما يجعل استخدامه الشخصي  وتدريب الأبناء أو الطلاب عليه أسهل وأكثر فائدة .
يعتبر "ميدنك" أول من أدخل النظرة الارتباطية إلى علم النفس الحديث حيث اقترح النظرية الارتباطية للعملية الإبداعية وربما كانت أهم نتائجه أن الأفكار الأصيلة غير المسبوقة تميل عادة لأن تكون بعيدة عن الواقع ، وأن أول شيء يفكر فيه الإنسان يكون في الغالب اعتيادياً ومكرراً ، ولا تظهر الأفكار الإبداعية إلا بعد استنفاد كافة أو معظم الأفكار الاعتيادية الواضحة ، وبالإمكان تجربة هذه النظرية من خلال طرح سؤال مفتوح النهاية مثل ( اكتب كافة استعمالات الخشب ) ثم تقسيم الإجابات لنصفين ومقارنة النصف الأول مع النصف الثاني من ناحية الإبداع والمرونة والتنوع ، وسوف نلاحظ أن الإجابات غير الاعتيادية تأتي غالباً في النصف الثاني من الإجابات .
مقابل ذلك فإن هنالك عدة نظريات أخرى تؤكد دور القياس والتفكير القياسي في التفكير الإبداعي ، فقد رأى "ويلينغ" أن التفكير القياسي يتضمن نقل مفهوم معين من سياق اعتيادي إلى سياق إبداعي آخر بحيث تكون العلاقة المجردة بين عناصر أحد الموقفين مشابهة للعلاقة الموجودة في السياق الإبداعي ، مثل استعمال القياس في اكتشاف الآلة البخارية عبر ملاحظة إبريق الشاي أو تنفيذ فكرة الأنفاق التي تسير فيها القاطرات تحت الأرض قياساً على الأنفاق التي تنتقل عبرها ديدان الأرض . وقد ميّز "دنبار" في عام 1995م بين ثلاثة أنواع مختلفة من القياسات ، الأول القياسات المحلية والتي تتضمن القياس في نفس الفكرة مع تغيير الحجم أو المكان ، والثاني هو القياسات الإقليمية والتي تمارس في نفس المجال العام كأن تنقل مثلاً طريقة عمل آلة صناعية معينة باستخدام القياس إلى آلة أخرى لصناعة منتج مختلف تماماً وطبعاً هنا بقيت الأفكار في نفس المجال وهو المجال الصناعي ، أما النوع الثالث فهو القياسات بعيدة المدى ومثالها ما ذكرناه قبل قليل في اكتشاف الآلة البخارية والأنفاق .
تركّز نظريات الإبداع المعرفية في الغالب على عمليات حل المشكلات ، ويمكن تعريف المشكلة التي نستخدمها هنا بأنها موقف يتميز بوجود هدف يراد الوصول إليه مع وجود عقبات تحول دون ذلك ، وعليه فإن البحث الواعي عن مشكلة ودفع الطالب أو الابن لحلها من أفضل الطرق التي تدفعه للتفكير الإبداعي ، ولا بد من أن نذكّر هنا بأنه من المهم بل من الواجب اختيار المشكلات ذات النهايات المفتوحة ، فمثلاً لو وضعنا مشكلة ليس لها سوى حل وحيد فإننا بالتأكيد سنستعمل التفكير التقاربي بينما التفكير في حل مشكلة يمكن إيجاد العديد من الحلول لها سيجعلنا نستعمل التفكير التباعدي لطرح أكبر عدد من الحلول والتي تتضمن الحلول الإبداعية .
إن موضوع التفكير وتعلم مهاراته وبرغم أنه علم حديث مقارنة بغيره من العلوم إلا أن الباحثين والعلماء المتخصصين قد قطعوا فيه شوطاً كبيراً وبذلوا فيه الكثير من الجهود التي أنتجت العديد من النظريات الناتجة عن أبحاث وتجارب مستفيضة وعملية تجريبية ، والإلمام بكافة النظريات والطرق لا يتيسر للمعلم أو الأب العادي ، ولكن ذلك لا يمنع من الاطلاع على أبرز ما كتب فيه ومحاولة تطبيق بعض الأفكار المتعلقة بالتفكير على النفس أو على الأبناء أو الطلاب أو حتى على الأصدقاء ، ومثل هذه الإضاءات البسيطة التي ذكرتها في هذا المقال والمقال السابق مثال على ما يمكننا الاطلاع عليه وممارسته من خلاصة تجارب وأبحاث استمرت ربما لعشرات السنين قام بها علماء نفس وخبراء تربية وغيرهم من الباحثين من أجل وضع نتائج نهائية تبنى عليها نظريات معتبرة .

بقي أخيراً أن أشير إلى أنّ الكثير من المعلومات الواردة في هذا المقال والمقال السابق مقتبسة من كتاب ( الإبداع .. نظرياته وموضوعاته ) للمؤلف "مارك رنكو" وأنصح باقتنائه لمن أراد التوسع خصوصا وأن مؤسسة موهبة قد قامت بترجمة الكتاب للغة العربية وهو متوفر الآن في منافذ البيع .

التفكير الإبداعي 1

( المقالة نُشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )

يعتبر (جيلفورد ) ، رئيس جمعية علم النفس الأمريكية خلال منتصف القرن الماضي ، أول من ميّز بين نوعين من التفكير وهما التفكير التباعدي والتفكير التقاربي ، وقد كرّس خطابه الرئاسي للجمعية عام 1949 لموضوع الإبداع وقال " إن الإبداع ثروة طبيعية وإن الجهود المبذولة لتشجيعه ستعود بالنفع العميم على المجتمع كله " كما أكد على أنه يمكن دراسة الإبداع دراسة موضوعية  ، وحاول في العقود اللاحقة  أن يثبت هذه الفكرة ، وهو بالفعل ما قام به من خلال قدرته على تحديد 180 مظهراً مختلفاً للعقل بُنيت عليها فيما بعد علاقة وتداخلات الذكاء الطبيعي بالإبداع .
يقصد بالتفكير التقاربي طريقة التفكير التي ( تقرّبنا ) وتوصلنا لأفضل إجابة وحيدة ، كالأسئلة : ما هي عاصمة المملكة العربية السعودية ؟ كم مساحة السودان ؟ وعادة تستخدم مع هذا النوع من التفكير الطرق التقليدية في استرجاع المعلومات كما يساعد الذكاء التقليدي على هذا النوع من التفكير ، ويستعمل مثلاً لحل الألغاز التي يكون لها حلاً وحيداً نريد الوصول إليه ، أما التفكير التباعدي فهو الأسلوب المستخدم عندما تُطرح الأسئلة المفتوحة لإنتاج أكبر عدد من الإجابات مثل الأسئلة : أذكر كل الأشياء التي تحتوي على قطع بلاستيكية دائرية ؟ أذكر كافة استعمالات الخشب ؟ ومن خلال هذا النوع من التفكير تبرز القدرات الإبداعية من خلال كمية الإجابات أو حداثتها ومخالفتها للسائد وهو( الإبداع ) بالإضافة إلى تنوعها وشمولها للعديد من المجالات .
وقد توصل " سيرمان " إلى نظرية أسماها ( نظرية العتبة ) حيث تقول النظرية أن هناك حد أدنى من الذكاء ( العتبة الدنيا ) لا يستطيع الشخص أن يكون مبدعاً إذا كان ذكاؤه أقل منها ، كما تميل النظرية إلى الاعتقاد بأن هناك ترابطاً بين الذكاء والإبداع ولكن عند مستويات معينة من القدرة ، لذلك فإن الذكاء ضروري ولكنه غير كافٍ للإنجازات الإبداعية .
إن إدراك أهمية الإبداع ليس بالأمر الجديد وحينما نقول ( إبداع ) فإننا لا نتحدث عن وقت معين أو نشاط محدد ، بل نتحدث عن طريقة حياة يمارسها الشخص من خلال طريقة تفكير تجعله يتخذ القرارات المناسبة  . ويكون الفرد في الغالب قد اكتسب طريقة التفكير هذه من خلال طريقة التربية وأسلوب التعليم وعبر وقت طويل من الممارسة بوعي الوالدين أو المعلمين بطريقة التفكير التي يستخدمها الطفل ، مما يوصله لأن يصبح التفكير الإبداعي لاحقاً سمة غالبة عليه وجزءً مهماً من شخصيته ، وهنا لابد أن ندرك بأن هناك اختلافاً بين الذكاء والإبداع بالرغم من وجود علاقة كبيرة بينهما ، فقد توصل " والاش " و " كوجان " إلى أن درجة الذكاء والمعدل التراكمي والتفكير التقاربي اللازم لهما مستقلة عن التفكير التباعدي والتفكير الأصيل وذلك من خلال اختبارات مقننة تم الاهتمام الكبير فيها ببيئة الاختبار وبناء علاقة ألفة مع الطلاب وإخبارهم عند تطبيق مقاييس التفكير التباعدي أنها مجرد تدريبات وليست للتقييم وأن الإملاء فيها غير مهم وأن التفكير بإجابة صحيحة لا يهم بقدر الاهتمام بسرد أكبر عدد من الإجابات والهدف من هذه الإجراءات هو عدم تقييد تفكير الطالب مما يساعد على قياس الإبداع لديه بشكل صحيح .

بقي أن نتساءل أخيراً :
ما نوع التفكير الذي نستخدمه في نظامنا التعليمي وفي تربيتنا لأطفالنا وفي حياتنا اليومية ؟
ما الذي سيحصل لو أننا استخدمنا نوعاً آخراً من التفكير ؟
 إذا كنت عزيزي القارئ قد قرأت المقال على مهل فإنك ستدرك( غالباً ) نوع التفكير الذي سنستخدمه مع كل سؤال .

 وشكراً

من يعلّق الجرس ؟

على مدى ما يقارب النصف قرن من الزمان استطاع المجتمع السعودي أن يتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع مدني حديث في معظم الجوانب المعيشية وفي بعض الجوانب الفكرية والاجتماعية ، وقد رافق هذا التحول الاجتماعي الكثير من التحولات في الأنظمة واللوائح التي تنظّم هذا الكائن الحديث . ونعلم أن الإنسان دائماً ما يكون هو المحور الأساسي لأي عملية تنموية ، لذلك فقد تطور المواطن السعودي علمياً واجتماعياً وأصبح قادراً على التناغم والتفاعل – إلى حد ما - مع مختلف الثقافات بعد أن كان يعيش في شبه عزلة حتى وقت ليس ببعيد وتغيرت معايير الكفاءة تبعاً لذلك ، فبعد أن كان مقياس الكفاءة في الماضي يعتمد على الجاه الموروث كالنسب أو القبيلة ، أصبح يعتمد على الجاه المكتسب كالخبرة العملية والشهادات الأكاديمية بالإضافة إلى السمات الشخصية .
وهنا أود أن أوضح بأني لا أنتقص من معايير الكفاءة في الماضي ،  إذ أن معايير الكفاءة عادة ما تأتي استجابة لظروف المجتمع ووفق ثقافته ومتطلباته ، وما يدل على ذلك أن الانسجام بين أفراد المجموعة الواحدة في الماضي كان أكبر بكثير من الحاضر حيث يقوم كل فرد بدوره المنوط به دون تذمّر بينما نجد الآن أن أي مجموعة أو فريق يزخر بعدد كبير من الكفاءات ( بمقاييس اليوم ) ، قادرة على التخطيط الجيد ورسم الاستراتيجيات الرائعة لأي عمل . لكنها وقت التطبيق تصطدم بعقبات لا حصر لها تتعلق في معظمها بأدبيات العمل ضمن جماعة وبثقافة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد وبمبدأ الإنجاز للجميع وليس لفرد بعينه وغيرها من الأمور النابعة من ثقافة راسخة لا بد من التعامل معها وتوجيهها .
إن تطور أساليب الحياة وشكلها الخارجي لا يعني بالضرورة تطور البنى التقليدية الفكرية التي ترسم العلاقات بين الأفراد ، بل بالعكس قد تتسبب سهولة التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة في تكريس بعض الأفكار التي تعيق التنمية في بعض الأحيان  وقد تصبح الحاضنات الالكترونية تربة خصبة لزرع تلك الأفكار وممارستها بعيداً عن المواجهة وتساعد في تناقلها بشكل سريع ومؤثر .خصوصاً وأن تلك الأفكار يصعب التحكم بها لأنها لا تشاهد إلا عبر ممارسات يتطلب الحكم عليها ملاحظة دقيقة وإدراك واسع لشبكة التفاعلات الاجتماعية ودوافعها .
إن انتقال المجتمع إلى المدنية في مظهرها الخارجي مع بقاء بعض البنى الفكرية التقليدية أمر طبيعي ونتيجة متوقعة للثراء المفاجئ الذي طرأ على المجتمع نتيجة اكتشاف النفط ثم انشغال المجتمع بالتنمية والبناء على حساب مناقشة الأفكار والحفر في أصول تشكيل الثقافة بشكلها الحديث ، وأعتقد أنه وبعد مدة طويلة من السجالات عديمة الفائدة أصبحنا بحاجة ماسة إلى مشروع فكري عميق يبحث ويفكك كل البنى المتشابكة ويخرج لنا بأفكار تناسب المجتمع وتأخذ بيده إلى مصاف المجتمعات المتمدنة في اللب وليس فقط في القشور ولا يستطيع القيام بهذا المشروع إلا من نشأ وترعرع وسط هذه الثقافة بكافة أبعادها الدينية والاجتماعية وتشربها تماماً حتى ألمّ بتفاصيلها الدقيقة . وهذه ليست المرة الأولى التي أدعو فيها إلى مشروع ثقافي سعودي وأركز هنا على أنه ( سعودي ) بالكامل وليس عربي ولا خليجي حتى ، لإيماني بأن الحراك الفكري والاجتماعي في السعودية كثيف وعميق ولم يكتب فيه حتى اليوم ما يروي ظمأ المتطلع لمعرفة هذا النسيج المتداخل برغم ما كتب هنا وهناك من كتب جادة كانت تناقش جزئيات معينة داخله وتصف حالات وأفكار خاصة ، إلا أن هناك حاجة ملحة الآن للبدء في المشاريع الفكرية والثقافية الكبرى التي تصف وتحلل وتناقش وتفسر لترسم بعض مسارات المستقبل .
ويبقى السؤال : من يعلق الجرس ؟

الميتافيزيقيا

هذا مقال مختصر عن الميتافيزيقيا ، العلم الذي نسمع عنه دائماً ولا نعرفه ، وقد جاء المقال على هيئة أسئلة حتى يكون أقرب للفهم . والأسئلة التي يجيب عليها هي :

ما هي الميتافيزيقيا ؟
متى أطلق هذا الاسم عليها ؟ ومن أطلقه ؟ وما معناه ؟
هل تستخدم الميتافيزيقيا التجربة ؟
هل الميتافيزيقيا هي الفلسفة الأولى ؟
ما معنى أن الله هو العلة الأولى للوجود ؟
ما هي موضوعات الميتافيزيقيا ؟
هل للميتافيزيقيا تقسيم كسائر العلوم ؟ ما هي تقسيماتها عن وجدت ؟
هل تم الاعتراض على الميتافيزيقية ؟
هل هناك ميتافيزيقيين مسلمين ؟


المقال


ما هي الميتافيزيقيا ؟
الميتافيزيقيا باختصار كانت تطلق على مجموعة البحوث والمقالات التي كتبها أرسطو باللغة اليونانية في عدة كتب ، ثم جمعت في كتاب واحد ، وأصبحت فيما بعد علم يطلق عليه هذا الاسم .


متى أطلق هذا الاسم عليها ؟ ومن أطلقه ؟ وما معناه ؟
لم يعرف فلاسفة اليونان هذا الاسم ، ولم يظهر في عصرهم . بل ظهر غي العصر الذي يليه المسمى ( الهلنيستي ) في العام الستون قبل الميلاد تقريباً ، عندما قام أندرونيقوس الرودسي ، رئيس المدرسة المشّائية في روما ( المدرسة المشّائية هي المدرسة الأرسطية ، والسبب في هذه التسمية أن من عادة أرسطو حينها أن يمشي في المدرسة التي أنشأها في ملعب رياضي يسمى اللوقيون ، فيأتي إليه تلاميذه ليلقي عليهم دروسه وهو يمشي في الحديقة ) بتصنيف كتب أرسطو وترتيبها وشرحها ، وأثناء ذلك وجد أن مجموعة تلك البحوث والكتب لم يطلق عليها أي اسم ، وأنها جاءت بعد مجموعة البحوث التي كتبها في الطبيعة ( الفيزيقيا ) ، فسماها ( ميتا ) أي ما بعد ، ليصبح اسمها ( ميتا..فيزيقيا ) أي ( ما بعد الطبيعة ) . والقصد أنها مجموعة الكتب البحوث التي تلت كتب الطبيعة . ولم تكن كلمة ( ميتافيزيقيا ) تحمل أي إشارة إلى مضمون تلك البحوث ، بل هي ما بعد طبيعة أرسطو فحسب ، ثم أصبحت فيما بعد ( مصادفةً ) تشير إلى المضمون ، بعد أن أصبح هذا العلم يهتم بكل ما تجاوز الظواهر المحسوسة .


هل تستخدم الميتافيزيقيا التجربة ؟
الميتافيزيقيا علمٌ قائمٌ على العقل ، لا تدخل فيه التجربة .


هل الميتافيزيقيا هي الفلسفة الأولى ؟
نعم . فاسم ( الفلسفة الأولى ) كان أرسطو يطلقه على مجموعة البحوث الميتافيزيقية ويرى أنها المبادئ الأولى والعلل البعيدة التي تشمل جميع المبادئ الأخرى . فهي أشمل العلوم وأكثرها يقيناً وتجرداً لأن موضوعها النهائي هو العلة الأولى أو المبدأ الأول . وهو أشرف الموضوعات وهو : الله .


ما معنى أن الله هو العلة الأولى للوجود ؟
حينما نقول أن الميتافيزيقيا تبحث عن العلل في الموجودات وسبب وجودها ، وننتقل من علة إلى أخرى أعلى منها ، ونعلم أنه من المستحيل أن تكون العلل لا متناهية ، بل لابد أن تكون هناك علة أولى أزلية تشترك فيها جميع الموجودات ، وهو الله . ومن هنا تنشأ العلاقة بين الميتافيزيقيا واللاهوت وهو علم الآلهة .


ما هي موضوعات الميتافيزيقيا ؟
لابد أن نعرف أن موضوعات الميتافيزيقيا تطورت مع الزمن ،ولكنها في الأساس ، وحسب تعريف أرسطو : البحث في الوجود بما هو موجود . ويعني هذا أن نبحث عن الحقيقة الغائبة من خلال ما هو حاضر أمامنا . مثلاً : أمامك حجر ، فهو موجود ، ولكنك لا تبحث فيه وتحلله وتسجل خواصه ، بل تثير الأسئلة التي تكشف الحقيقة الكامنة خلفه . ما أصله ؟ كيف تكون ؟ ما هي مادته الأولية ؟ وهكذا .
ثم امتد مجال الميتافيزيقيا في الفلسفة الحديثة ( 1588 – 1776 م ) ليشمل نظرية المعرفة . وقد اهتم الفلاسفة المعاصرين بمشكلة المعرفة وطرحوا حولها العديد من الأسئلة : ما مصادر المعرفة ؟ أهي الحواس أم العقل ؟ أم إلى حاسة سادسة ؟ وهل تستطيع قدراتنا وملكاتنا أن تعرف كل شيء ؟ وغيرها من الأسئلة التي تشكل مشكلة المعرفة . وبذلك تنشأ علاقة وثيقة بين نظرية الوجود ونظرية المعرفة ، حيث أن البحث في الطبيعة الحقيقية يستلزم البحث في قدرتنا المعرفية . وفي هذا المجال تحدث الكثير من الفلاسفة الوجوديون عن فكرة الوجود . ما هو ؟ أين أنا ؟ كيف جئت ؟ ماذا سيحدث بعد ذلك ؟ وشمل البحث الموت وأثيرت حوله التساؤلات ، بل وقالوا إن الموت يتبع مع الجميع سياسة ديمقراطية تقوم على المساواة المطلقة إن صح التعبير ، فهو لا يميز بين أحد وآخر مهما كان . وأن طبيعة الموت متناقضة ، لأنه يجمع بين اليقين وعدم اليقين ، فأنت تعلم يقيناً أنك ستموت ، ولكنك لا تعلم أبداً متى ستموت . ومتناقض لأنه نهاية وبداية في نفس الوقت .وأنه حرية وقيد .
وإذا كانت الوجودية قد اهتمت بالحياة والموت فإنها اهتمت أيضاً بالحب ، والقلق ، والخوف ، وقالت إن القلق هو الخوف من مجهول ، وبالحرية ، والاختيار والمسئولية والالتزام والذنب والضمير وتحقيق الذات وبالجسد والوجود الزائف .
وهكذا نجد أن موضوعات الميتافيزيقيا ومشكلاتها لم تقف جامدة ، بل كانت تتغير وتتطور طوال تاريخها ، ولكن هناك مشاكل دائمة ظلت ملازمة لها طوال حياتها مثل : مشكلة النفس وعلاقتها بالبدن ومشكلة وجود الله والأدلة على وجودة ومشكلة الزمان والمكان والجوهر والمادة والسببية والكليات والجزئيات والتغير والهوية الشخصية .



هل للميتافيزيقيا تقسيم كسائر العلوم ؟ ما هي تقسيماتها عن وجدت ؟
نعم . للميتافيزيقيا تقسيم واضح منذ نشأتها ، ولكن لم يقسمها أحد حتى القرن السابع عشر ميلادي حيث قسمها كريستيان فولف الفيلسوف التنويري الألماني . وقد قسّمها كالتالي :

1- القسم الأول : الأنطولوجيا أو نظرية الوجود :
وقد تحدثنا عن ذلك وكيف أن أرسطو كان يبحث في الوجود بما هو موجود وثم تطورت لنظرية المعرفة حتى ظهرت الوجودية الحديثة والتي تهتم بالوجود البشري .

2- القسم الثاني : السيكولوجيا العقلية :
وهي تهتم بدراسة النفس البشرية ، هل هي بسيطة أم معقدة ؟ هل هي نفس واحدة أم عدة أنفس ؟ وما العلاقة بينها ؟ وما الفرق بين النفس والروح ؟ وما علاقة الروح بالبدن ؟ وكيف تتحول الأمور النفسية إلى مادية ؟ ( مثل احمرار الوجه عند الخجل ) . وما مصير النفس بعد الموت ؟ وكيف تعاقب النفس بعد الموت ؟ وغيرها من الأسئلة .

3- القسم الثالث : الكسمولوجيا أو الكونيات :
ويشمل العالم وظهور الكون ومم يتألف ؟ وما هي الحياة ؟ وما أصلها ؟ ويدرس كذلك الأزل والزمان والمكان والغائية ( وهي البحث في غاية الحياة ) .

4- القسم الرابع : اللاهوت العقلي أو الطبيعي :
وهو يناقش موضوع الألوهية والأدلة على وجود الله وصفاته ، وانقسم الفلاسفة فيه إلى ثلاثة أقسام :
· مذهب التأليه :وهم يؤمنون بوجود الله ، بعضهم موحدين وبعضهم مشركين يقولون بتعدد الآلهة .
· مذهب الطبيعيين الإلهي : يقولون هناك إله ، ولكنهم ينكرون الوحي والرسل ، ويقولون بأن العقل قادر على معرفة الله دون رسل .
· مذهب الإلحاد : وهم ينكرون الألوهية بكل صورها . وكان الغزالي يسميهم الدهريين أو الزنادقة ومنهم ماركس ونيتشه وسارتر .


هل تم الاعتراض على الميتافيزيقية ؟
نعم . قامت العديد من المشاكل والانتقادات على هذا العلم على مر العصور خصوصاً في العصر الحديث وكانت أبرز الملاحظات هي :
· الميتافيزيقيا مستحيلة ، فالأسئلة التي تطرحها مستحيلة الإجابة .
· لم يعد للميتافيزيقيا مكان بعد تطور العلوم التجريبية .
· أن قدراتنا كبشر ، لا تتعدى الظاهر . ومن الصعب الحكم على الغيبيات بالقطع .
· الميتافيزيقيا عديمة الجدوى .
· مشكلات الميتافيزيقيا لا تتغير .
وقد قام أنصار هذا العلم بتفنيد كل الانتقادات والرد عليها ، والمجال لا يتسع لذكر الردود .


هل هناك ميتافيزيقيين مسلمين ؟
نعم . وهم كثر ، وقد تناولوا العلم بأوجه مختلفة . ونذكر هنا أشهرهم على سبيل المثال لا الحصر :

1- الكندي ( 801 – 865 ) م : وهو أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي ، فيلسوف العرب ، وهو أول من حاول التوفيق بين الفلسفة والدين ، ملخص مذهبه أن العالم مخلوق لله ، وأن أحداث الكون يرتبط بعضها ببعض ارتباط العلة بالمعلول ، وأن النفس جوهر بسيط هبط من عالم العقل إلى عالم الحس ، وبمفارقتها للبدن تشهد الحقائق وتستشعر اللذة ، والحواس وسيلتنا إلى إدراك الجزئيات التي لا تشكل علماً حقيقياً ، لذلك كان العلم هو علماً بالكلي الذي يدركه العقل ( وهو ما ذهب إليه أرسطو ) ، ولابد أن ننوه بان الكندي بدأ حياته الفكرية متصلاً بالمعتزلة مشاركاً في نقاشاتهم .

2- الفارابي : ( 870 – 950 ) م : وهو أبو نصر الفارابي الملقب ( بالمعلم الثاني ) على اعتبار أن أرسطو هو ( المعلم الأول ) ، وقد ألف مجموعة كبيرة من الرسالات والكتب والشروح في المنطق وما بعد الطبيعة ، وشرح سائر مؤلفات أرسطو ، وألف كذلك في الموسيقى والشعر وعلم النفس والأخلاق والسياسة .

3- ابن سينا : ( 980 – 1037 ) م : وهو أبو علي الحسن بن عبدالله بن سينا الملقب ( بالشيخ الرئيس ) ، كتب في المنطق الرياضي والطبيعي والإلهيات والحكمة والعشق وغيرها ، كان مسايراً لأرسطو في فهمه للميتافيزيقيا .

4- ابن رشد ( 1126 – 1198 ) م : وهو محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد يلقب ( بالحفيد ) تمييزاً له عن أبيه وجده العالمان ، ألف كتباً في الطب ولخص كتاب ( الخطابة والأخلاق لأرسطو ) وغيرها من الكتب . وقد كانت ميتافيزيقية ابن رشد قائمة بذاتها منفصلة عن ميتافيزيقية أرسطو ، وقد رد على الإمام الغزالي في تكفيره للفلاسفة في مسائلٍ ثلاث : قِدَم العالم – علم الله بالجزئيات – إنكار بعث الأجساد ، وقال بأن كلام الفلاسفة لا يعارض ما جاءت به الشريعة الإسلامية بل تثبتها ولكن بطريقة أخرى .
.
.
.


المقال مستقى من عدة مصادر أهمها كتب الأستاذ إمام عبدالفتاح إمام .