العقل وعلم الأخلاق العربي

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

تأثرت الثقافة العربية بعدة عوامل ساهمت بتشكلها كما هي اليوم ، أهم هذه العوامل هو الموروث العربي القديم خصوصاً الشعر ثم الدين الإسلامي بالإضافة إلى العقل اليوناني والفارسي القديم ، لذلك فإن أي دراسة تريد أن تحفر في أعماق هذه الثقافة لا بد أن تناقش الأمر من خلال هذه المحددات للوصول إلى رؤية أشمل وأدق ، ومن هذا المنطلق يورد محمد عابد الجابري في كتاب العقل الأخلاقي العربي الذي يأتي ضمن سلسلة نقد العقل العربي وتحت فصل ( أيهما يؤسس الأخلاق .. العقل أم النقل ؟ ) عدة مقولات وآراء من تلك الثقافات  التي شكلت العقل العربي للإجابة على السؤال عنوان الفصل ، بعد أن يبرر ضرورة عدم الركون للتفسيرات السيكولوجية أو الاجتماعية  أو الاكتفاء بجعل الدين أو الضمير أساساً لعلم الأخلاق بسبب نسبية الأخلاق واختلاف الحكم على السلوك الواحد في زمانين أو مكانين مختلفين في نفس الثقافة أو من ثقافة لأخرى مما يوجب ضرورة التأسيس لعلم أخلاق شامل وكلي نابع من ثقافة أصيلة .
نعلم بأن الدين الإسلامي يغطي جميع مظاهر الحياة بأحكامه وتشريعاته إما بشكل صريح عبر أحكام واضحة وردت فيها نصوص صريحة أو ضمناً عبر الأمر بإعمال العقل في الاجتهاد والبحث لاستخلاص الأحكام خصوصاً فيما ترك الإسلام له مساحة للاجتهاد من متغيرات لا بد أن يستمر الفقهاء في مواكبتها لتحقيق مقاصد الشريعة والأهداف الكلية منها ، وعليه فإن العقل في الدين الإسلامي هو مصدر معظم الأحكام المتعلقة بالأخلاق من خلال المراجعة الدائمة والتجديد المستمر للأحكام وفق النصوص الثابتة بما يوائم بين المستجدات والمقاصد ،  حيث أن الأخلاق في معظمها أمر متغير ومختلف فيه كما أن الكثير منها متروك في الشريعة للاجتهاد والعرف السائد ، أما على مستوى اللغة والأدب وهو ما يطلق عليها الجابري ( الموروث العربي الخالص ) فإننا نجد بأن الأخلاق غالباً مرتبطة بالعقل ، فقد ورد في لسان العرب تحت توضيح مفردة العقل ، أن العقل هو ما يزجر صاحبه عن القبائح وأن العقل هو عقل اللسان ومعناه صونه عن الألفاظ القبيحة  ، ولم ترد الأخلاق مرتبطة بمفردة ( العقل ) أو مشتقاتها فحسب ، بل وردت كثيراً من خلال مفردات متعلقة بها من حيث المعنى مثل النهى أو الذهن أو الفكر أو الفؤاد وغيرها من المفردات ، ، كذلك وفي هذا الموروث الخالص ارتبط العقل بالمروءة وقيل في هذا ( لا مروءة لمن لا عقل له ) ونعلم بأن المروءة قيمة مركزية في الثقافة العربية وارتباطها بالعقل يدل على أن العقل هو أساس الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الخالص ، ونشير هنا إلى ما قال به بعض المستشرقين في مسألة خلوّ اللغة العربية من مفردة الضمير الذي يتعلق في الثقافة الأوروبية الحديثة أو اليونانية القديمة بالأخلاق عبر ما يسمى بالضمير الأخلاقي ، والهدف من قولهم هذا بيان ضعف الجانب الأخلاقي في الثقافة العربية لأنها من وجهة نظرهم لم تحتوي على مفردات تؤسس لعلم أخلاقي عربي ، ولكن الحقيقة أن مفردة ( الضمير) في اللغة العربية موجودة ولكنها لا تمثل الأخلاق فقط بل تحيل إلى معانٍ أخرى مختلفة عنها ، وللأخلاق في اللغة العربية عدة ألفاظ متعلقة بها كما ذكرنا أعلاه ربما لم يدركها المستشرقون كما ينبغي ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن غياب المفردات المتعلقة بأمر ما في ثقافة معينة لا يعني بالضرورة غياب مفهومها عن تلك الثقافة وهو ما لاحظه المستشرق جولدزيهر الذي ردّ بهذا القول على زعم المستشرقين الآخرين .
بالانتقال إلى مصدري الثقافة العربية الآخرين وهما الثقافة الفارسية واليونانية القديمة يورد الجابري العديد من الشواهد التي تؤكد ارتباط الأخلاق بالعقل في تلك الثقافات خصوصاً فيما تمت ترجمته أو كتابته باللغة العربية كما فعل ابن المقفع أو الفلاسفة العرب كابن رشد وغيره ، وفي علم الكلام العربي الذي تأثر كثيراً بتلك الثقافات مما يدل على علو قيمة العقل سابقاً وإعماله في استخلاص الأحكام الأخلاقية وما يتعلق بها .

من خلال العرض الموجز للعلاقة بين الأخلاق والعقل نلاحظ بأن الثقافة العربية مليئة بالألفاظ والمفاهيم والاساليب التي يمكن أن تكوّن أساساً لبناء علم أخلاق عربي بالمفهوم اليوناني أو الأوروبي ، وأنه لا يوجد عائق يقف أمام استكمال وصياغة هذا العلم بشكل مستقل وكامل وشامل ، ونختم المقال بنهاية مفتوحة من خلال طرح السؤال الذي ختم به الجابري مقولته : لماذا لم يظهر في الثقافة العربية علم مستقل للأخلاق على الرغم من كثرة العلوم العقلية فيها ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أتشرف بتعليقكم ومنتابعتكم