التفكير الإبداعي 2

( المقالة نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )

فرّقت في المقال السابق الذي نشر تحت عنوان ( التفكير الإبداعي ) بين نوعين من التفكير وهما التفكير التقاربي والتفكير التباعدي ، وكان التركيز على التفكير التباعدي خصوصاً الإبداعي منه ، وفي هذا المقال واستكمالاً لما طرح في المقال السابق سأتحدث بشكل عام عن بعض الآراء والنظريات حول التفكير الإبداعي ، لأن معرفة مثل هذه الآراء والنظريات سيزيد من وعينا بعملية التفكير مما يجعل استخدامه الشخصي  وتدريب الأبناء أو الطلاب عليه أسهل وأكثر فائدة .
يعتبر "ميدنك" أول من أدخل النظرة الارتباطية إلى علم النفس الحديث حيث اقترح النظرية الارتباطية للعملية الإبداعية وربما كانت أهم نتائجه أن الأفكار الأصيلة غير المسبوقة تميل عادة لأن تكون بعيدة عن الواقع ، وأن أول شيء يفكر فيه الإنسان يكون في الغالب اعتيادياً ومكرراً ، ولا تظهر الأفكار الإبداعية إلا بعد استنفاد كافة أو معظم الأفكار الاعتيادية الواضحة ، وبالإمكان تجربة هذه النظرية من خلال طرح سؤال مفتوح النهاية مثل ( اكتب كافة استعمالات الخشب ) ثم تقسيم الإجابات لنصفين ومقارنة النصف الأول مع النصف الثاني من ناحية الإبداع والمرونة والتنوع ، وسوف نلاحظ أن الإجابات غير الاعتيادية تأتي غالباً في النصف الثاني من الإجابات .
مقابل ذلك فإن هنالك عدة نظريات أخرى تؤكد دور القياس والتفكير القياسي في التفكير الإبداعي ، فقد رأى "ويلينغ" أن التفكير القياسي يتضمن نقل مفهوم معين من سياق اعتيادي إلى سياق إبداعي آخر بحيث تكون العلاقة المجردة بين عناصر أحد الموقفين مشابهة للعلاقة الموجودة في السياق الإبداعي ، مثل استعمال القياس في اكتشاف الآلة البخارية عبر ملاحظة إبريق الشاي أو تنفيذ فكرة الأنفاق التي تسير فيها القاطرات تحت الأرض قياساً على الأنفاق التي تنتقل عبرها ديدان الأرض . وقد ميّز "دنبار" في عام 1995م بين ثلاثة أنواع مختلفة من القياسات ، الأول القياسات المحلية والتي تتضمن القياس في نفس الفكرة مع تغيير الحجم أو المكان ، والثاني هو القياسات الإقليمية والتي تمارس في نفس المجال العام كأن تنقل مثلاً طريقة عمل آلة صناعية معينة باستخدام القياس إلى آلة أخرى لصناعة منتج مختلف تماماً وطبعاً هنا بقيت الأفكار في نفس المجال وهو المجال الصناعي ، أما النوع الثالث فهو القياسات بعيدة المدى ومثالها ما ذكرناه قبل قليل في اكتشاف الآلة البخارية والأنفاق .
تركّز نظريات الإبداع المعرفية في الغالب على عمليات حل المشكلات ، ويمكن تعريف المشكلة التي نستخدمها هنا بأنها موقف يتميز بوجود هدف يراد الوصول إليه مع وجود عقبات تحول دون ذلك ، وعليه فإن البحث الواعي عن مشكلة ودفع الطالب أو الابن لحلها من أفضل الطرق التي تدفعه للتفكير الإبداعي ، ولا بد من أن نذكّر هنا بأنه من المهم بل من الواجب اختيار المشكلات ذات النهايات المفتوحة ، فمثلاً لو وضعنا مشكلة ليس لها سوى حل وحيد فإننا بالتأكيد سنستعمل التفكير التقاربي بينما التفكير في حل مشكلة يمكن إيجاد العديد من الحلول لها سيجعلنا نستعمل التفكير التباعدي لطرح أكبر عدد من الحلول والتي تتضمن الحلول الإبداعية .
إن موضوع التفكير وتعلم مهاراته وبرغم أنه علم حديث مقارنة بغيره من العلوم إلا أن الباحثين والعلماء المتخصصين قد قطعوا فيه شوطاً كبيراً وبذلوا فيه الكثير من الجهود التي أنتجت العديد من النظريات الناتجة عن أبحاث وتجارب مستفيضة وعملية تجريبية ، والإلمام بكافة النظريات والطرق لا يتيسر للمعلم أو الأب العادي ، ولكن ذلك لا يمنع من الاطلاع على أبرز ما كتب فيه ومحاولة تطبيق بعض الأفكار المتعلقة بالتفكير على النفس أو على الأبناء أو الطلاب أو حتى على الأصدقاء ، ومثل هذه الإضاءات البسيطة التي ذكرتها في هذا المقال والمقال السابق مثال على ما يمكننا الاطلاع عليه وممارسته من خلاصة تجارب وأبحاث استمرت ربما لعشرات السنين قام بها علماء نفس وخبراء تربية وغيرهم من الباحثين من أجل وضع نتائج نهائية تبنى عليها نظريات معتبرة .

بقي أخيراً أن أشير إلى أنّ الكثير من المعلومات الواردة في هذا المقال والمقال السابق مقتبسة من كتاب ( الإبداع .. نظرياته وموضوعاته ) للمؤلف "مارك رنكو" وأنصح باقتنائه لمن أراد التوسع خصوصا وأن مؤسسة موهبة قد قامت بترجمة الكتاب للغة العربية وهو متوفر الآن في منافذ البيع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أتشرف بتعليقكم ومنتابعتكم