من يعلّق الجرس ؟

على مدى ما يقارب النصف قرن من الزمان استطاع المجتمع السعودي أن يتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع مدني حديث في معظم الجوانب المعيشية وفي بعض الجوانب الفكرية والاجتماعية ، وقد رافق هذا التحول الاجتماعي الكثير من التحولات في الأنظمة واللوائح التي تنظّم هذا الكائن الحديث . ونعلم أن الإنسان دائماً ما يكون هو المحور الأساسي لأي عملية تنموية ، لذلك فقد تطور المواطن السعودي علمياً واجتماعياً وأصبح قادراً على التناغم والتفاعل – إلى حد ما - مع مختلف الثقافات بعد أن كان يعيش في شبه عزلة حتى وقت ليس ببعيد وتغيرت معايير الكفاءة تبعاً لذلك ، فبعد أن كان مقياس الكفاءة في الماضي يعتمد على الجاه الموروث كالنسب أو القبيلة ، أصبح يعتمد على الجاه المكتسب كالخبرة العملية والشهادات الأكاديمية بالإضافة إلى السمات الشخصية .
وهنا أود أن أوضح بأني لا أنتقص من معايير الكفاءة في الماضي ،  إذ أن معايير الكفاءة عادة ما تأتي استجابة لظروف المجتمع ووفق ثقافته ومتطلباته ، وما يدل على ذلك أن الانسجام بين أفراد المجموعة الواحدة في الماضي كان أكبر بكثير من الحاضر حيث يقوم كل فرد بدوره المنوط به دون تذمّر بينما نجد الآن أن أي مجموعة أو فريق يزخر بعدد كبير من الكفاءات ( بمقاييس اليوم ) ، قادرة على التخطيط الجيد ورسم الاستراتيجيات الرائعة لأي عمل . لكنها وقت التطبيق تصطدم بعقبات لا حصر لها تتعلق في معظمها بأدبيات العمل ضمن جماعة وبثقافة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد وبمبدأ الإنجاز للجميع وليس لفرد بعينه وغيرها من الأمور النابعة من ثقافة راسخة لا بد من التعامل معها وتوجيهها .
إن تطور أساليب الحياة وشكلها الخارجي لا يعني بالضرورة تطور البنى التقليدية الفكرية التي ترسم العلاقات بين الأفراد ، بل بالعكس قد تتسبب سهولة التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة في تكريس بعض الأفكار التي تعيق التنمية في بعض الأحيان  وقد تصبح الحاضنات الالكترونية تربة خصبة لزرع تلك الأفكار وممارستها بعيداً عن المواجهة وتساعد في تناقلها بشكل سريع ومؤثر .خصوصاً وأن تلك الأفكار يصعب التحكم بها لأنها لا تشاهد إلا عبر ممارسات يتطلب الحكم عليها ملاحظة دقيقة وإدراك واسع لشبكة التفاعلات الاجتماعية ودوافعها .
إن انتقال المجتمع إلى المدنية في مظهرها الخارجي مع بقاء بعض البنى الفكرية التقليدية أمر طبيعي ونتيجة متوقعة للثراء المفاجئ الذي طرأ على المجتمع نتيجة اكتشاف النفط ثم انشغال المجتمع بالتنمية والبناء على حساب مناقشة الأفكار والحفر في أصول تشكيل الثقافة بشكلها الحديث ، وأعتقد أنه وبعد مدة طويلة من السجالات عديمة الفائدة أصبحنا بحاجة ماسة إلى مشروع فكري عميق يبحث ويفكك كل البنى المتشابكة ويخرج لنا بأفكار تناسب المجتمع وتأخذ بيده إلى مصاف المجتمعات المتمدنة في اللب وليس فقط في القشور ولا يستطيع القيام بهذا المشروع إلا من نشأ وترعرع وسط هذه الثقافة بكافة أبعادها الدينية والاجتماعية وتشربها تماماً حتى ألمّ بتفاصيلها الدقيقة . وهذه ليست المرة الأولى التي أدعو فيها إلى مشروع ثقافي سعودي وأركز هنا على أنه ( سعودي ) بالكامل وليس عربي ولا خليجي حتى ، لإيماني بأن الحراك الفكري والاجتماعي في السعودية كثيف وعميق ولم يكتب فيه حتى اليوم ما يروي ظمأ المتطلع لمعرفة هذا النسيج المتداخل برغم ما كتب هنا وهناك من كتب جادة كانت تناقش جزئيات معينة داخله وتصف حالات وأفكار خاصة ، إلا أن هناك حاجة ملحة الآن للبدء في المشاريع الفكرية والثقافية الكبرى التي تصف وتحلل وتناقش وتفسر لترسم بعض مسارات المستقبل .
ويبقى السؤال : من يعلق الجرس ؟

هناك 3 تعليقات:

أتشرف بتعليقكم ومنتابعتكم