( نشرت في صحيفة خليجي بوست )
( إن طوراً جديداً في التاريخ العالمي قد بدأ ، حيث لم تعد أسباب
النزاعات كما كانت في السابق اقتصادية أو إيديولوجية أولية بل أصبحت النزاعات
والانقسامات ثقافية )
هذا ما تنبأ به وكتبه المفكر السياسي صاموئيل هنتجتون في مقالة نشرت
عام 1993 م ، وقد طوّر فكرته لاحقاً وحولها إلى مشروع صدر في كتاب مهم تحت عنوان (
صراع الحضارات ) تناول فيه أطروحته بشكل مفصل ، واليوم وبعد أن وضعت العولمة
أوزارها وبرزت الثقافات المختلفة من جديد نلاحظ أن شيئاً من تلك الرؤية قد ظهر
وأصبح واقعاً يعيشه الناس بعد أن انتقل من عالم الأفكار المثالي إلى عالم الواقع
الملموس . وهنا يبرز السؤال القضية : هل كان بالإمكان مجابهة هذا التحول وتعديل
مساره ؟
الثقافة هي رؤية المجتمع للأمور وطريقة تفكيرهم فيها حيث تترجم في
العادة إلى سلوك ، وتتكون الثقافة وتتشكل عبر تراكمات طويلة الأمد من الأديان
والفنون والحضارات والأحداث والتجارب المختلفة ، وتخضع دوما للتطور أو التراجع وفق
الظروف والأحداث المستجدة ، وتتكون عادة في العقل الجمعي اللاواعي حيث يصعب تحديد
الدوافع الثقافية الكامنة خلف التطورات إلا عبر شواهد كثيرة وأحداث مختلفة وفي
أوقات لاحقة يكون الظرف الثقافي قد انتهي فيه من التشكل وأصبح واضح المعالم ، ويتم
عادة إدراك التحولات عن طريق المفكرين والمهتمين بهذا الشأن ، وعلى الرغم من كثرة
الأبحاث والدراسات والجهود التي يبذلها علماء الفكر والاجتماع وغيرهم للتحكم في
سيرورة ثقافة المجتمعات إلا أنها تسير دوماً كما تريد وفق معطيات وظروف لا يمكن
التحكم بها .
وقد ذكر ابن خلدون ضمن مبادئ علم الاجتماع أن قوانين هذا العلم تفعل
فعلها في الجماعات ولا تتأثر بصورة كبيرة بالأفراد والأحداث المنعزلة ، وقياساً
على الأمثلة التي ساقها فإن المحاولات التي قد يقوم بها الذين يدّعون أو يحاولون الإصلاح
قلّما تصادف النجاح لأن جهود الأفراد سرعان ما تكتسح من قبل التيار الجارف العنيف
الذي تمثله القوى الاجتماعية المتأثرة بالثقافة المترسخة في العقل اللاواعي .
ومن
هنا فإنني أرى بأن دور المفكر والمثقف صاحب الرؤى والأفكار يتوقف عند طرحها عبر
الكتب والمقالات الجادة والرصينة ووسائل الإعلام المختلفة ، وأن يُبقي ما يراه في
حدود النقاش والتعاطي المثالي بعيداً عن أي محاولة لفرضه على أرض الواقع ، حيث أن
تطبيق تلك الأفكار لا يمكن أن يتأتى عبر الممارسة الواعية بل تبقى الأفكار حتى
تنضج ويحين وقتها ليجدها هو أو من يأتي بعده تتغلغل في النسيج الاجتماعي بكل هدوء
ووفق رغبة وضرورة ودون أي ممارسة متعمدة . ولو تأملنا قليلاً في التاريخ القديم أو
الحديث سنلاحظ بأن معظم الذين حاولوا تطبيق أفكارهم مباشرة قد قتلوها من حيث
أرادوا لها الحياة ، وبأن أكثر التحولات الثقافية التي حصلت عبر التاريخ لم يكن
أحد يستطيع أن يفرضها بالطريقة التي حصلت بها ، مقابل ذلك فإن تفسيرها وتحليلها
لاحقاً كان أمراً منطقياً وواضحاً وقابلاً للفهم والاستيعاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أتشرف بتعليقكم ومنتابعتكم