الوظائف في الأزمة الكبرى

( نُشرت في صحيفة خليجي بوست )

يشغل معظم مواطني أي بلد أو إقليم وظائف تلائم طبيعة بلادهم ومواردها ، فمعظم الناس في الدول الصناعية يشتغلون بالصناعة بينما يشتغل سكان المناطق الزراعية بالزراعة وهكذا ، ويكون هذا بالطبع في أوقات السلم والاستقرار والأوضاع الطبيعية ، أما في حال حدوث أزمات سياسية أو اقتصادية أو في حال الكوارث الطبيعية أو الحروب فإن شيئاً من التغيير يحصل غالباً على خارطة الأعمال والوظائف .
الأزمة هي حالة حرجة غير مستقرة تحدث نتيجة تغيير مفاجئ – وأحياناً متوقع – أول مراحلها الصدمة والارتباك وعدم الوضوح في الرؤية ، بعد تلك المرحلة تأتي مرحلة إدراك المشكلة والتعامل معها والتي يتم خلالها في كثير من الأحيان حدوث التغييرات لمواجهة الأزمة ، وتشمل هذه التغييرات في الغالب وظائف بعض الناس وأعمالهم بشكل مؤقت لتجاوز الأزمة والتعامل معها . ففي حال الأزمات الاقتصادية يفقد الكثير من الموظفين خصوصاً في الدول الصناعية أعمالهم ويتجهون إلى وظائف أدني ، وفي حال الكوارث الطبيعية يتجه الكثير من الناس لمجالات الإنقاذ والمساعدة وفي أوقات الحرب قد يتجه البعض إلى مجالات تتعلق بالحرب كالتجنيد أو الخدمة العسكرية ، كل تلك الأعمال المؤقتة أعمال أخلاقية مطلوبة . يقابل ذلك فئة من الناس تتجه لاستغلال الأزمات بشكل غير أخلاقي من خلال التكسّب عبر ممارسات فيها استغلال للمنكوبين أو عمليات نهب أو تهريب وخلافه ، لكن الأمر ينتهي مع انتهاء الأزمة وعودة الحياة الطبيعية واستتباب الأمن .
إن الصراع القائم في بعض الدول العربية والحروب المستمرة هي أزمة كبرى طال أمدها ، وانعدمت معها الحياة المدنية الطبيعية في كثير من الدول بل وامتد أثرها ليشمل المناطق الحدودية للدول المجاورة لها ، وتبعاً لهذه الأزمة انقسم الناس بين لاجئ ونازح وصامد تحت وطأة الرصاص والفقر ، بينما نشط تجار الحروب ومستغلّو الأزمات بين مهرّب للبشر وتاجر للسلاح وإعلامي غير نزيه يحلل ويؤجج الصراع لا يزيدهم طول أمد الصراع إلا مزيد من الكسب والتغوّل لتصبح في الغالب هذه المهن غير الشريفة مهنهم الأصلية التي يسعون بكل الطرق لتوسيعها وجعل شبكاتها ومنظماتها ممتدة حول العالم من خلال استقطاب المزيد من الكوادر التي تحولت مع طول الأزمة وانعدام الأمل من المواطنة الصالحة إلى هذه الأعمال المشينة .

وبما أن الإنسان سريع التكيّف مع الأوضاع الجديدة فإن الخوف كل الخوف أن يمتهن بعض الناس مهناً لا يمكن أن تمارس في الأوضاع الطبيعية مما يجعل العودة للحياة المدنية أمراً معقداً  للغاية لا يقل صعوبة من الأزمة الحاصلة ، لذلك فإن هنالك مسؤولية كبرى تقع على المنظمات الدولية والدول كافة في المحافظة على تجمعات اللاجئين أو النازحين وفق ظروف مدنية يمارس فيها كل صاحب مهنة  مهنته ولو بأجر زهيد ، وأن تكون مدناً مصغرة تضمن للجميع حياة عادية وألا يكتفى فيها بالمساعدات دون عمل قدر الإمكان ، ولا نعلم فربما كما حدثت الأزمة فجأة أن تنفرج فجأة وتعود المياه كما يقال لمجاريها .

إيجابيات انخفاض أسعار النفط

( نُشرت في صحيفة خليجي بوست )

دعا صندوق النقد الدولي مؤخراً حكومات دول الخليج العربي إلى السعي نحو تنويع مصادر الدخل وعدم الاكتفاء بعائدات النفط او الغاز الطبيعي كمصدر دخل شبه وحيد للدولة ، وقد كان ما دعا إليه المجلس هو الهدف المشترك والأهم في جميع الخطط الخمسية للمملكة العربية السعودية والتي بدأت بوضعها منذ العام 1970 م ، ورغم ذلك فإننا نلاحظ أن نسبة العائدات غير النفطية لم ترتفع بالشكل المأمول والمطلوب .
لقد تعرضت أسعار النفط للعديد من التقلبات والانخفاضات خلال العقود السابقة لكن دول الخليج خصوصاً المملكة العربية السعودية كانت قادرة على تجاوزها بسبب استقرار الأوضاع الداخلية والخارجية وقلة المشاريع المنفذة وبسبب ظروف اقتصادية معينة تساعد على تجاوز الأزمة .
واليوم نلاحظ أن النفط قد فقد ما يقارب نصف قيمته خلال فترة قصيرة ، هذا في الوقت الذي تشهد فيه الملكة العربية السعودية نهضة تنموية كبرى في شتى المجالات ولم تنه بعد مشاريعها التي بدأتها معها ، كما تزامن ذلك مع بعض الظروف السياسية والأمنية بالمنطقة ، وكل تلك الظروف بلا شك تحتاج إلى مزيد من الإنفاق لتجاوزها وأدائها على الشكل المطلوب في ظل عدم موائمة الظروف كما كان في السابق وعدم قدرة الفكر والطريقة السابقة على إيجاد الحلول الناجعة للأزمة والتعامل معها ، وذلك ما دعا الدولة إلى التحرك السريع والجاد في وضع الخطط البديلة وإصدار بعض القرارات السيادية التي تحسّن الوضع الاقتصادي ، وقد بدأ مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بوضع برنامج التحول الوطني مبتدئاً بورشة عمل شارك فيها ممثلون لمختلف شرائح المجتمع لوضع المقترحات والتصورات المبدئية للبرنامج ، ويتضح من خلال هذه البداية أن طريقة وضع وتنفيذ البرنامج تختلف تماماً عن طريقة وضع الخطط السابقة وآليات تنفيذها وهذا التحوّل في حد ذاته نقطة إيجابية مهمة ساهم انخفاض سعر النفط حالياً في صناعتها .
نعلم أن انخفاض سعر النفط سوف يؤدي مباشرة إلى تأجيل بعض المشاريع التي يمكن تأجيلها ، ولهذا الأمر انعكاسات اجتماعية إيجابية لا حصر لها ، فتوقف المشاريع - رغم صعوبته وأثره على التنمية – يعني الاستغناء عن خدمات عدد كبير من العاملة الوافدة والذي يؤدي بدوره إلى تخفيف الضغط على البنية التحتية والمواد المدعومة من الحكومة وانخفاض الازدحام المروري وزيادة نسبة السعودة وغير ذلك من الإيجابيات المترتبة على ذلك الأمر ، كما أن تأجيل المشاريع في حد ذاته فعل إيجابي حيث أنه يكبح جماح النمط الاستهلاكي الذي نعاني منه ، فقلّة الموارد تجعلك تركّز على ما تحتاج إليه فعلاً .

إن تغيير طريقة التعاطي مع المستجدات المختلفة والرغبة الجادة في إيجاد الحلول المستدامة سيجعلنا نطوّر ونحسّن الكثير من المفاهيم التي ظلت راسخة لعقود في الأذهان ، كما أن توحيد الرؤى بين الحكومة والشعب وصناعة الأهداف المشتركة أمر بدا جلياً في الفترة الماضية ، كل هذا سيجعلنا أفضل وأقدر على التعامل مع المشكلات على المدى البعيد ، وقد يرتفع سعر النفط لاحقاً وسيكون عندها التخطيط واستغلال الارتفاع بشكل أفضل وأكثر فائدة لنا وللأجيال القادة ، حينها سنحمد الله كثيراً على هذا الانخفاض الحاصل . 

التفكير الإبداعي 2

( المقالة نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )

فرّقت في المقال السابق الذي نشر تحت عنوان ( التفكير الإبداعي ) بين نوعين من التفكير وهما التفكير التقاربي والتفكير التباعدي ، وكان التركيز على التفكير التباعدي خصوصاً الإبداعي منه ، وفي هذا المقال واستكمالاً لما طرح في المقال السابق سأتحدث بشكل عام عن بعض الآراء والنظريات حول التفكير الإبداعي ، لأن معرفة مثل هذه الآراء والنظريات سيزيد من وعينا بعملية التفكير مما يجعل استخدامه الشخصي  وتدريب الأبناء أو الطلاب عليه أسهل وأكثر فائدة .
يعتبر "ميدنك" أول من أدخل النظرة الارتباطية إلى علم النفس الحديث حيث اقترح النظرية الارتباطية للعملية الإبداعية وربما كانت أهم نتائجه أن الأفكار الأصيلة غير المسبوقة تميل عادة لأن تكون بعيدة عن الواقع ، وأن أول شيء يفكر فيه الإنسان يكون في الغالب اعتيادياً ومكرراً ، ولا تظهر الأفكار الإبداعية إلا بعد استنفاد كافة أو معظم الأفكار الاعتيادية الواضحة ، وبالإمكان تجربة هذه النظرية من خلال طرح سؤال مفتوح النهاية مثل ( اكتب كافة استعمالات الخشب ) ثم تقسيم الإجابات لنصفين ومقارنة النصف الأول مع النصف الثاني من ناحية الإبداع والمرونة والتنوع ، وسوف نلاحظ أن الإجابات غير الاعتيادية تأتي غالباً في النصف الثاني من الإجابات .
مقابل ذلك فإن هنالك عدة نظريات أخرى تؤكد دور القياس والتفكير القياسي في التفكير الإبداعي ، فقد رأى "ويلينغ" أن التفكير القياسي يتضمن نقل مفهوم معين من سياق اعتيادي إلى سياق إبداعي آخر بحيث تكون العلاقة المجردة بين عناصر أحد الموقفين مشابهة للعلاقة الموجودة في السياق الإبداعي ، مثل استعمال القياس في اكتشاف الآلة البخارية عبر ملاحظة إبريق الشاي أو تنفيذ فكرة الأنفاق التي تسير فيها القاطرات تحت الأرض قياساً على الأنفاق التي تنتقل عبرها ديدان الأرض . وقد ميّز "دنبار" في عام 1995م بين ثلاثة أنواع مختلفة من القياسات ، الأول القياسات المحلية والتي تتضمن القياس في نفس الفكرة مع تغيير الحجم أو المكان ، والثاني هو القياسات الإقليمية والتي تمارس في نفس المجال العام كأن تنقل مثلاً طريقة عمل آلة صناعية معينة باستخدام القياس إلى آلة أخرى لصناعة منتج مختلف تماماً وطبعاً هنا بقيت الأفكار في نفس المجال وهو المجال الصناعي ، أما النوع الثالث فهو القياسات بعيدة المدى ومثالها ما ذكرناه قبل قليل في اكتشاف الآلة البخارية والأنفاق .
تركّز نظريات الإبداع المعرفية في الغالب على عمليات حل المشكلات ، ويمكن تعريف المشكلة التي نستخدمها هنا بأنها موقف يتميز بوجود هدف يراد الوصول إليه مع وجود عقبات تحول دون ذلك ، وعليه فإن البحث الواعي عن مشكلة ودفع الطالب أو الابن لحلها من أفضل الطرق التي تدفعه للتفكير الإبداعي ، ولا بد من أن نذكّر هنا بأنه من المهم بل من الواجب اختيار المشكلات ذات النهايات المفتوحة ، فمثلاً لو وضعنا مشكلة ليس لها سوى حل وحيد فإننا بالتأكيد سنستعمل التفكير التقاربي بينما التفكير في حل مشكلة يمكن إيجاد العديد من الحلول لها سيجعلنا نستعمل التفكير التباعدي لطرح أكبر عدد من الحلول والتي تتضمن الحلول الإبداعية .
إن موضوع التفكير وتعلم مهاراته وبرغم أنه علم حديث مقارنة بغيره من العلوم إلا أن الباحثين والعلماء المتخصصين قد قطعوا فيه شوطاً كبيراً وبذلوا فيه الكثير من الجهود التي أنتجت العديد من النظريات الناتجة عن أبحاث وتجارب مستفيضة وعملية تجريبية ، والإلمام بكافة النظريات والطرق لا يتيسر للمعلم أو الأب العادي ، ولكن ذلك لا يمنع من الاطلاع على أبرز ما كتب فيه ومحاولة تطبيق بعض الأفكار المتعلقة بالتفكير على النفس أو على الأبناء أو الطلاب أو حتى على الأصدقاء ، ومثل هذه الإضاءات البسيطة التي ذكرتها في هذا المقال والمقال السابق مثال على ما يمكننا الاطلاع عليه وممارسته من خلاصة تجارب وأبحاث استمرت ربما لعشرات السنين قام بها علماء نفس وخبراء تربية وغيرهم من الباحثين من أجل وضع نتائج نهائية تبنى عليها نظريات معتبرة .

بقي أخيراً أن أشير إلى أنّ الكثير من المعلومات الواردة في هذا المقال والمقال السابق مقتبسة من كتاب ( الإبداع .. نظرياته وموضوعاته ) للمؤلف "مارك رنكو" وأنصح باقتنائه لمن أراد التوسع خصوصا وأن مؤسسة موهبة قد قامت بترجمة الكتاب للغة العربية وهو متوفر الآن في منافذ البيع .

التفكير الإبداعي 1

( المقالة نُشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )

يعتبر (جيلفورد ) ، رئيس جمعية علم النفس الأمريكية خلال منتصف القرن الماضي ، أول من ميّز بين نوعين من التفكير وهما التفكير التباعدي والتفكير التقاربي ، وقد كرّس خطابه الرئاسي للجمعية عام 1949 لموضوع الإبداع وقال " إن الإبداع ثروة طبيعية وإن الجهود المبذولة لتشجيعه ستعود بالنفع العميم على المجتمع كله " كما أكد على أنه يمكن دراسة الإبداع دراسة موضوعية  ، وحاول في العقود اللاحقة  أن يثبت هذه الفكرة ، وهو بالفعل ما قام به من خلال قدرته على تحديد 180 مظهراً مختلفاً للعقل بُنيت عليها فيما بعد علاقة وتداخلات الذكاء الطبيعي بالإبداع .
يقصد بالتفكير التقاربي طريقة التفكير التي ( تقرّبنا ) وتوصلنا لأفضل إجابة وحيدة ، كالأسئلة : ما هي عاصمة المملكة العربية السعودية ؟ كم مساحة السودان ؟ وعادة تستخدم مع هذا النوع من التفكير الطرق التقليدية في استرجاع المعلومات كما يساعد الذكاء التقليدي على هذا النوع من التفكير ، ويستعمل مثلاً لحل الألغاز التي يكون لها حلاً وحيداً نريد الوصول إليه ، أما التفكير التباعدي فهو الأسلوب المستخدم عندما تُطرح الأسئلة المفتوحة لإنتاج أكبر عدد من الإجابات مثل الأسئلة : أذكر كل الأشياء التي تحتوي على قطع بلاستيكية دائرية ؟ أذكر كافة استعمالات الخشب ؟ ومن خلال هذا النوع من التفكير تبرز القدرات الإبداعية من خلال كمية الإجابات أو حداثتها ومخالفتها للسائد وهو( الإبداع ) بالإضافة إلى تنوعها وشمولها للعديد من المجالات .
وقد توصل " سيرمان " إلى نظرية أسماها ( نظرية العتبة ) حيث تقول النظرية أن هناك حد أدنى من الذكاء ( العتبة الدنيا ) لا يستطيع الشخص أن يكون مبدعاً إذا كان ذكاؤه أقل منها ، كما تميل النظرية إلى الاعتقاد بأن هناك ترابطاً بين الذكاء والإبداع ولكن عند مستويات معينة من القدرة ، لذلك فإن الذكاء ضروري ولكنه غير كافٍ للإنجازات الإبداعية .
إن إدراك أهمية الإبداع ليس بالأمر الجديد وحينما نقول ( إبداع ) فإننا لا نتحدث عن وقت معين أو نشاط محدد ، بل نتحدث عن طريقة حياة يمارسها الشخص من خلال طريقة تفكير تجعله يتخذ القرارات المناسبة  . ويكون الفرد في الغالب قد اكتسب طريقة التفكير هذه من خلال طريقة التربية وأسلوب التعليم وعبر وقت طويل من الممارسة بوعي الوالدين أو المعلمين بطريقة التفكير التي يستخدمها الطفل ، مما يوصله لأن يصبح التفكير الإبداعي لاحقاً سمة غالبة عليه وجزءً مهماً من شخصيته ، وهنا لابد أن ندرك بأن هناك اختلافاً بين الذكاء والإبداع بالرغم من وجود علاقة كبيرة بينهما ، فقد توصل " والاش " و " كوجان " إلى أن درجة الذكاء والمعدل التراكمي والتفكير التقاربي اللازم لهما مستقلة عن التفكير التباعدي والتفكير الأصيل وذلك من خلال اختبارات مقننة تم الاهتمام الكبير فيها ببيئة الاختبار وبناء علاقة ألفة مع الطلاب وإخبارهم عند تطبيق مقاييس التفكير التباعدي أنها مجرد تدريبات وليست للتقييم وأن الإملاء فيها غير مهم وأن التفكير بإجابة صحيحة لا يهم بقدر الاهتمام بسرد أكبر عدد من الإجابات والهدف من هذه الإجراءات هو عدم تقييد تفكير الطالب مما يساعد على قياس الإبداع لديه بشكل صحيح .

بقي أن نتساءل أخيراً :
ما نوع التفكير الذي نستخدمه في نظامنا التعليمي وفي تربيتنا لأطفالنا وفي حياتنا اليومية ؟
ما الذي سيحصل لو أننا استخدمنا نوعاً آخراً من التفكير ؟
 إذا كنت عزيزي القارئ قد قرأت المقال على مهل فإنك ستدرك( غالباً ) نوع التفكير الذي سنستخدمه مع كل سؤال .

 وشكراً

من يعلّق الجرس ؟

على مدى ما يقارب النصف قرن من الزمان استطاع المجتمع السعودي أن يتحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع مدني حديث في معظم الجوانب المعيشية وفي بعض الجوانب الفكرية والاجتماعية ، وقد رافق هذا التحول الاجتماعي الكثير من التحولات في الأنظمة واللوائح التي تنظّم هذا الكائن الحديث . ونعلم أن الإنسان دائماً ما يكون هو المحور الأساسي لأي عملية تنموية ، لذلك فقد تطور المواطن السعودي علمياً واجتماعياً وأصبح قادراً على التناغم والتفاعل – إلى حد ما - مع مختلف الثقافات بعد أن كان يعيش في شبه عزلة حتى وقت ليس ببعيد وتغيرت معايير الكفاءة تبعاً لذلك ، فبعد أن كان مقياس الكفاءة في الماضي يعتمد على الجاه الموروث كالنسب أو القبيلة ، أصبح يعتمد على الجاه المكتسب كالخبرة العملية والشهادات الأكاديمية بالإضافة إلى السمات الشخصية .
وهنا أود أن أوضح بأني لا أنتقص من معايير الكفاءة في الماضي ،  إذ أن معايير الكفاءة عادة ما تأتي استجابة لظروف المجتمع ووفق ثقافته ومتطلباته ، وما يدل على ذلك أن الانسجام بين أفراد المجموعة الواحدة في الماضي كان أكبر بكثير من الحاضر حيث يقوم كل فرد بدوره المنوط به دون تذمّر بينما نجد الآن أن أي مجموعة أو فريق يزخر بعدد كبير من الكفاءات ( بمقاييس اليوم ) ، قادرة على التخطيط الجيد ورسم الاستراتيجيات الرائعة لأي عمل . لكنها وقت التطبيق تصطدم بعقبات لا حصر لها تتعلق في معظمها بأدبيات العمل ضمن جماعة وبثقافة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد وبمبدأ الإنجاز للجميع وليس لفرد بعينه وغيرها من الأمور النابعة من ثقافة راسخة لا بد من التعامل معها وتوجيهها .
إن تطور أساليب الحياة وشكلها الخارجي لا يعني بالضرورة تطور البنى التقليدية الفكرية التي ترسم العلاقات بين الأفراد ، بل بالعكس قد تتسبب سهولة التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة في تكريس بعض الأفكار التي تعيق التنمية في بعض الأحيان  وقد تصبح الحاضنات الالكترونية تربة خصبة لزرع تلك الأفكار وممارستها بعيداً عن المواجهة وتساعد في تناقلها بشكل سريع ومؤثر .خصوصاً وأن تلك الأفكار يصعب التحكم بها لأنها لا تشاهد إلا عبر ممارسات يتطلب الحكم عليها ملاحظة دقيقة وإدراك واسع لشبكة التفاعلات الاجتماعية ودوافعها .
إن انتقال المجتمع إلى المدنية في مظهرها الخارجي مع بقاء بعض البنى الفكرية التقليدية أمر طبيعي ونتيجة متوقعة للثراء المفاجئ الذي طرأ على المجتمع نتيجة اكتشاف النفط ثم انشغال المجتمع بالتنمية والبناء على حساب مناقشة الأفكار والحفر في أصول تشكيل الثقافة بشكلها الحديث ، وأعتقد أنه وبعد مدة طويلة من السجالات عديمة الفائدة أصبحنا بحاجة ماسة إلى مشروع فكري عميق يبحث ويفكك كل البنى المتشابكة ويخرج لنا بأفكار تناسب المجتمع وتأخذ بيده إلى مصاف المجتمعات المتمدنة في اللب وليس فقط في القشور ولا يستطيع القيام بهذا المشروع إلا من نشأ وترعرع وسط هذه الثقافة بكافة أبعادها الدينية والاجتماعية وتشربها تماماً حتى ألمّ بتفاصيلها الدقيقة . وهذه ليست المرة الأولى التي أدعو فيها إلى مشروع ثقافي سعودي وأركز هنا على أنه ( سعودي ) بالكامل وليس عربي ولا خليجي حتى ، لإيماني بأن الحراك الفكري والاجتماعي في السعودية كثيف وعميق ولم يكتب فيه حتى اليوم ما يروي ظمأ المتطلع لمعرفة هذا النسيج المتداخل برغم ما كتب هنا وهناك من كتب جادة كانت تناقش جزئيات معينة داخله وتصف حالات وأفكار خاصة ، إلا أن هناك حاجة ملحة الآن للبدء في المشاريع الفكرية والثقافية الكبرى التي تصف وتحلل وتناقش وتفسر لترسم بعض مسارات المستقبل .
ويبقى السؤال : من يعلق الجرس ؟