استهلاك اللفن

( نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )


يقول أحد الآراء بأن كل شيءٍ يُحدث تغييراً على ديمومة الأشياء أو الأحداث هو نوع من أنواع الفن ، فتحويل شكل صخرة ظلت عليه لقرون إلى منحوتة جميلة فن ، وتغيير شكل الكلمات العادية التي تستعمل على الدوام بهذا الشكل إلى كلمات موزونة ومقفّاة لها أثرها الفني فنٌ أيضا ، هذا الرأي انطلق من مبدأ الديمومة لهنري برغسون الذي طبّقه في كتابه " الضحك " ، لذلك فإن التغيير في الأشياء وفق رؤية ذاتية في البدء هو فن في معناه الشامل الذي يتفرّع ويتحدد إلى مجالات متعددة أخذت رؤاها وقواعدها من خلال التراكم الإنساني عبر العصور .
لقد بدأ الفن منذ العصور القديمة وفقا للحاجات المعيشية التي دعت الفرد لتحويل الحجر الى أداة يستعملها في حياته اليومية ، وجذوع الاشجار الى رماح او سفن ، حينها لم يكن ذلك العمل فناً بمعناه الجمالي بل كان أقرب للحرفة والصنعة ،  لذلك بقيت قيمة الفنانين منخفضة في السلّم الاجتماعي وكانوا في منزلة الحرفيين والصنّاع .
في عصر النهضة الإيطالية بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي ومع ازدهار الفن خصوصاً فن النحت والرسم التي كان الهدف الأساسي منها هو إنشاء المعابد ورسم الرسوم الروحانية للكنيسة ، أدخلت مبادئ الرسم والتركيب الفني في تأسيس الأكاديميات الملكية للفن ، وارتفعت معها قيمة الفنانين ،  في ذلك الحين كانت الرسوم الأسطورية هي الأنبل ثم الطبيعية التي تحاكي جمال الطبيعة ثم الواقعية التي تصور طريقة الحياة اليومية وقد أصبح الرسامون و النحاتون والموسيقيون يقومون بأعمالهم الفنية بناءً على طلبات ورغبات طبقة النبلاء أو المؤسسات الرسمية وفق عقود مكتوبة ومبالغ مالية محددة ومدة زمنية معينة .
ومع بداية القرن العشرين ربط عدد كبير من المؤرخين و العلماء مبادئ الفن بالأنماط الاقتصادية والبنى الاجتماعية الطبقية متأثرين في هذه النظرة بالفكر الماركسي خصوصاً في روسيا وأجزاء كبيرة من أوروبا وأصبح الفنانون وفقا لذلك أعضاء في جماعات محددة لهم أدوار وموضوعات معدة مسبقا وأصبحت الأعمال الفنية تمول وتشترى من قبل أفراد أو مجموعات أو مؤسسات ضمن سوق استهلاكي تحمه آليات العرض والطلب .
خلال الفترة الأخيرة تيسرت كافة الظروف التي تساعد الفن على أن يصبح في عزلة عن كافة المتطلبات التي تحاصره ، خصوصاً مع انتشار الآلات والمطابع والمكائن والكاميرات التي قد تقوم بمهمة الفنان القديمة التي تطلب منه ، ولكن ما حصل للأسف أنه ومع سيطرة المادية والنفعية على أسلوب الحياة في ظل تراجع المعاني الإنسانية والذاتية أخذ الفن بجميع أنواعه ينخرط ضمن الآلة الاقتصادية الضخمة التي تدير العالم ، وتحولت قيمة العمل الفني من أثره الفني على المتلقي إلى قيمته المالية التي بيع بها أو الأرباح المالية التي حققها حتى وصلنا اليوم إلى أن الإعلان عن أي عمل فني يتم من خلال قيمته المادية وليست الفنية .

إن سيطرة المادية على الفن تخنق الإبداع فيه وتجعله مرهوناً لمتطلبات ومعطيات السوق ، من سيشتري ؟ وبكم ؟ وأين ؟ وتستمر الأسئلة حتى يبرز السؤال الأخطر ما الفائدة من أي عمل فني إذا لم ينخرط ضمن آليات البيع والشراء ويكسب ؟ ، وهذه النتيجة هي أمر حتمي لنزعة الاستهلاك التي طالت الفن ضمن ما طالته من قيم إنسانية أهم من قبله حيث أصبح الأمر فيها يقاس بالربح والخسارة فقط .

أيهما أسبق .. الفكرة أم الواقع ؟


( نشرت في جريدة الوطن ) 

عندما يتم النقاش حول مشكلة اجتماعية ما ويرغب المتناقشون في طرح الحلول نجد أنهم في الغالب ينقسمون إلى فريقين ، الأول يرى ضرورة توعية الناس ونصحهم للحد من تلك المشكلة بينما يرى الفريق الآخر ضرورة سن القوانين الصارمة للحد من تلك المشكلة ، الفريق الأول يرى الحل في تغيير الأفكار بينما يرى الفريق الآخر أن تغيير الواقع مباشرة هو الحل ، وهذا الاختلاف في الرؤية يشبه كثيراً الفرق بين من يرى بأن السعي لمستقبل مشرق لابد أن يبدأ ببناء الإنسان عبر التعليم والتربية وبين من يرى بأن النهضة تتم عبر فرض واقع اقتصادي ووظيفي جديد يغير المجتمع نحو الأفضل .
على مستوى الدول والأمم في سقوطها ونهوضها نلاحظ أيضاً بأن هنالك دول عديدة نشأت أو تلاشت عبر أفكار مسبقة وضعت على يد مفكرين أو فلاسفة بينما دفعت ظروف الواقع دول أخرى إلى النهوض أو السقوط دون وجود أفكار مسبقة .
الجدل حول أسبقية الفكرة أو الواقع جدل قديم جديد ، ويتغير شكله متخذاً عدة أشكال سواءً كانت على مستوى الرؤية أو التطبيق ، وقد لا يتضح بأن هذا الجدل هو أساس الاختلاف في كثير الأمور إلا عند استحضاره وفهمه من كافة جوانبه ، من جهة أخرى فإنه بالإمكان ملاحظته من خلال سماع حديث بعض المسؤولين حين يتحدثون عن خططهم ورؤيتهم لتطوير إدارتهم أو حين سماع تعليق لأحدهم حول أحداث أو حلول معينة . ولا يعرف كثير من الأشخاص العاديون أنهم يؤيدون ذلك التوجه أو التوجه الآخر إذ أن مثل هذه الرؤية تكون مختبئة داخل تفكير الإنسان ، لكنها تظهر ويمكن ملاحظتها من خلال مناقشته أو معرفة رؤيته حول بعض الأمور .
كثيراً ما نلاحظ طرح بعض الحلول أو التفسيرات بطريقة تسعى إلى الجمع بين الأمرين ، كأن يتم إطلاق حملة توعوية لمعالجة أمر ما بالتزامن مع البدء في سن القوانين التي تمنعه وتعاقب مرتكبه ، في الغالب نجد مثل هذه الحلول التي تحاول السير على الاتجاهين تركّز عملها على ناحية دون الأخرى لأنها تؤمن بأنه هو الحل وإن لم تصرّح بذلك ، كما نلاحظ على صعيد التطبيق بأن أحد الأمرين كان هو الحل بالفعل ولم تكن هنالك حاجة حقيقية للأمر الآخر .

وعلى مستوى الواقع الآن ومن خلال التجارب وملاحظة النتائج نلاحظ دوماً بأن التغيير الاجتماعي لا يحصل إلا عبر فرض القوانين والتغييرات على أرض الواقع خصوصاً في الأمور المهمة والملحة والتي لا تقبل التأجيل بينما وعلى مستوى التغييرات الكبرى وبعيدة الأمد فإنه من المهم بذل الوقت والجهد في وضع التصورات والرؤى وطرح الأفكار قبل التنفيذ وكلما وضحت الأفكار وتعمقت وفهمت كلما كان أثرها أكبر وتطبيقها أسهل . ولابد من الإشارة هنا إلى ضرورة أن يكون صانع الأفكار بعيد عن ميدان العمل والعكس صحيح ، وهذا ما نلاحظه في التجارب الناجحة لنهوض الأمم في السابق حيث قامت على أفكار فلاسفة ومفكرين كانوا بعيدين جداً عن معترك السياسة والاقتصاد .

اللحظات الفارقة

( نشرت في جريدة الرياض )

نسمع كثيراً ممن يشجعون الآخرين على الإنجاز والإبداع يقولون أن ذلك العالم الفذ أو ذلك المخترع العظيم كان يوماً من الأيام تلميذاً فاشلاً أو مصاباً بمرض عقلي أو نفسي ما ، وفي نفس الوقت نسمعهم يقولون بأنه من المفترض أن يجتهد الطالب ويتفوق في دراسته ويحظى برعاية جيدة حتى يصبح ذو شأن حينما يكبر !
كما نعرف كثيراً من الناس الذين نشأوا في بيئة واحدة وتعرضوا لنفس الظروف ولهم نفس القدرات أصبح بعضهم ناجحاً في حياته بينما أصبح الآخرون فاشلون فيها بشكل كبير ، كما نلاحظ كثيراً أيضاً بأن عدداً من الأسر التي تكني أطفالها بكنىً مثل دكتور أو مهندس أو عالم لتشجعيهم على أن يصبحوا كذلك ، قد أصبحت فيما بعد تعاني من فشل أبنائها بشكل كبير ، بينما أصبح بعض أبناء جيرانهم أو أقاربهم الذين لم يكونوا يهتمون بتشجيع أبنائهم ورعايتهم دكاترة ومهندسين أو على الأقل ناجحين في حياتهم ، كذلك الحال مع أبناء ذلك الملتزم الذي كان يحرص على تربية أبنائه تربية دينية صارمة وحين كبروا لم يلتزموا به كما كان متوقع منهم بل إن أبناء الآخر المتساهل أصبحوا أكثر التزاماً منهم .
مثل هذه الأمثلة التي نلاحظها كثيراً في محيطنا تجعلنا نفكر في كيفية تكوين الفرد الصالح الناجح في حياته بشكل عام وفي طريقة تكوين ذلك الآخر الفاشل ، هل كانت التربية هي السبب ؟ أم القدوة ؟ أم البيئة ؟ أما ماذا بالضبط ؟ وكل ما قلنا بأن هذا أو ذاك هو السبب وجدنا أن عدداً كبيراً من الناس يخالف تلك القاعدة ، وبأن هذا العدد يدل على أنهم ليسوا حالات شاذة ، بل أن ما نتوقع أنه السبب هو ليس في الواقع السبب الحقيقي بل هي مجرد رؤيتنا التي نتوقعها ، مما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي :
ما الذي جعل الناجح الذي لم يحظ بما يؤهله ليكون ناجحاً ، ليصبح ما هو عليه اليوم ؟ وبالمقابل ما الذي جعل الفاشل الذي تلقى كل ما يؤهله ليكون ناجحاً ، فاشلاً ؟
في اعتقادي أنها ( اللحظة الفارقة ) نعم إنها تلك اللحظة التي حدث فيها للفرد أمر ما شكّل منعطفاً هاماً في حياته أخذه إلى طريق النجاح أو طريق الفشل ، تلك اللحظة هي التي رسمت للفرد طريقه المستقبلي الذي سيسلكه بقية عمره دون أن يكون قد أعد له سلفاً ، اللحظة الفارقة هي تلك اللحظة التي قد تنسف كل ما مضى من تربية ورعاية وتعليم أو ترمم وتعالج كل القصور الذي حدث فيها ، ليس هناك وقتاً محدداً للّحظات الفارقة ، قد تأتي للفرد في طفولته أو شبابه أو بعد ذلك ، قد تكون تلك اللحظة مكافأة من معلم أو عقاباً منه ، وقد تكون قبول في جامعة أو مركز معين أو رفضها له ، قد تكون لحظة إلهام بفكرة جيدة أو شيطانية ، وقد تكون لحظة تعرف على صديق جديد رائع أو سيء سيؤثر عليه مستقبلاً ، قد تكون حادث أو تعلم مهارة أو علم جديد وقد تكون لقاء عابر بآخر عرض عليه أمر غير متوقع .
لو تأملنا حياة الناجحين أو الفاشلين من حولنا سنجد أن لكل منهم لحظات فارقة في حياته غيرت مسيرته ، قد نعرفها وقد لا نعرفها إلا بعد سؤاله عنها .
بقي أخيراً أن نتساءل :
هل يشترط أن يكون لكل شخص لحظة فارقة في حياته ؟ وهل يمكن توقع اللحظات الفارقة والإعداد لها ؟ هل يمكن أن تكون لنفس الشخص لحظات فارقة متعددة في حياته ؟ وهل نستطيع صنع لحظات فارقة لأنفسنا او لغيرنا ؟


العقل وعلم الأخلاق العربي

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

تأثرت الثقافة العربية بعدة عوامل ساهمت بتشكلها كما هي اليوم ، أهم هذه العوامل هو الموروث العربي القديم خصوصاً الشعر ثم الدين الإسلامي بالإضافة إلى العقل اليوناني والفارسي القديم ، لذلك فإن أي دراسة تريد أن تحفر في أعماق هذه الثقافة لا بد أن تناقش الأمر من خلال هذه المحددات للوصول إلى رؤية أشمل وأدق ، ومن هذا المنطلق يورد محمد عابد الجابري في كتاب العقل الأخلاقي العربي الذي يأتي ضمن سلسلة نقد العقل العربي وتحت فصل ( أيهما يؤسس الأخلاق .. العقل أم النقل ؟ ) عدة مقولات وآراء من تلك الثقافات  التي شكلت العقل العربي للإجابة على السؤال عنوان الفصل ، بعد أن يبرر ضرورة عدم الركون للتفسيرات السيكولوجية أو الاجتماعية  أو الاكتفاء بجعل الدين أو الضمير أساساً لعلم الأخلاق بسبب نسبية الأخلاق واختلاف الحكم على السلوك الواحد في زمانين أو مكانين مختلفين في نفس الثقافة أو من ثقافة لأخرى مما يوجب ضرورة التأسيس لعلم أخلاق شامل وكلي نابع من ثقافة أصيلة .
نعلم بأن الدين الإسلامي يغطي جميع مظاهر الحياة بأحكامه وتشريعاته إما بشكل صريح عبر أحكام واضحة وردت فيها نصوص صريحة أو ضمناً عبر الأمر بإعمال العقل في الاجتهاد والبحث لاستخلاص الأحكام خصوصاً فيما ترك الإسلام له مساحة للاجتهاد من متغيرات لا بد أن يستمر الفقهاء في مواكبتها لتحقيق مقاصد الشريعة والأهداف الكلية منها ، وعليه فإن العقل في الدين الإسلامي هو مصدر معظم الأحكام المتعلقة بالأخلاق من خلال المراجعة الدائمة والتجديد المستمر للأحكام وفق النصوص الثابتة بما يوائم بين المستجدات والمقاصد ،  حيث أن الأخلاق في معظمها أمر متغير ومختلف فيه كما أن الكثير منها متروك في الشريعة للاجتهاد والعرف السائد ، أما على مستوى اللغة والأدب وهو ما يطلق عليها الجابري ( الموروث العربي الخالص ) فإننا نجد بأن الأخلاق غالباً مرتبطة بالعقل ، فقد ورد في لسان العرب تحت توضيح مفردة العقل ، أن العقل هو ما يزجر صاحبه عن القبائح وأن العقل هو عقل اللسان ومعناه صونه عن الألفاظ القبيحة  ، ولم ترد الأخلاق مرتبطة بمفردة ( العقل ) أو مشتقاتها فحسب ، بل وردت كثيراً من خلال مفردات متعلقة بها من حيث المعنى مثل النهى أو الذهن أو الفكر أو الفؤاد وغيرها من المفردات ، ، كذلك وفي هذا الموروث الخالص ارتبط العقل بالمروءة وقيل في هذا ( لا مروءة لمن لا عقل له ) ونعلم بأن المروءة قيمة مركزية في الثقافة العربية وارتباطها بالعقل يدل على أن العقل هو أساس الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الخالص ، ونشير هنا إلى ما قال به بعض المستشرقين في مسألة خلوّ اللغة العربية من مفردة الضمير الذي يتعلق في الثقافة الأوروبية الحديثة أو اليونانية القديمة بالأخلاق عبر ما يسمى بالضمير الأخلاقي ، والهدف من قولهم هذا بيان ضعف الجانب الأخلاقي في الثقافة العربية لأنها من وجهة نظرهم لم تحتوي على مفردات تؤسس لعلم أخلاقي عربي ، ولكن الحقيقة أن مفردة ( الضمير) في اللغة العربية موجودة ولكنها لا تمثل الأخلاق فقط بل تحيل إلى معانٍ أخرى مختلفة عنها ، وللأخلاق في اللغة العربية عدة ألفاظ متعلقة بها كما ذكرنا أعلاه ربما لم يدركها المستشرقون كما ينبغي ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن غياب المفردات المتعلقة بأمر ما في ثقافة معينة لا يعني بالضرورة غياب مفهومها عن تلك الثقافة وهو ما لاحظه المستشرق جولدزيهر الذي ردّ بهذا القول على زعم المستشرقين الآخرين .
بالانتقال إلى مصدري الثقافة العربية الآخرين وهما الثقافة الفارسية واليونانية القديمة يورد الجابري العديد من الشواهد التي تؤكد ارتباط الأخلاق بالعقل في تلك الثقافات خصوصاً فيما تمت ترجمته أو كتابته باللغة العربية كما فعل ابن المقفع أو الفلاسفة العرب كابن رشد وغيره ، وفي علم الكلام العربي الذي تأثر كثيراً بتلك الثقافات مما يدل على علو قيمة العقل سابقاً وإعماله في استخلاص الأحكام الأخلاقية وما يتعلق بها .

من خلال العرض الموجز للعلاقة بين الأخلاق والعقل نلاحظ بأن الثقافة العربية مليئة بالألفاظ والمفاهيم والاساليب التي يمكن أن تكوّن أساساً لبناء علم أخلاق عربي بالمفهوم اليوناني أو الأوروبي ، وأنه لا يوجد عائق يقف أمام استكمال وصياغة هذا العلم بشكل مستقل وكامل وشامل ، ونختم المقال بنهاية مفتوحة من خلال طرح السؤال الذي ختم به الجابري مقولته : لماذا لم يظهر في الثقافة العربية علم مستقل للأخلاق على الرغم من كثرة العلوم العقلية فيها ؟

كب كيك

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

نلاحظ خلال السنوات الأخيرة سيطرة عدد من الشركات أو الأسماء الكبيرة على أنشطة تجارية معينة بحيث يسيطر كل اسم على نشاط معين من خلال افتتاح عدد كبير جداً من الفروع أو الاستحواذ على محلات مشابهة لنشاطه بعد أن يخرجها من دائرة المنافسة ، هنالك من سيطر على أسواق الملابس وآخر يسيطر على الصيدليات وثالث على محلات البقالة الكبيرة وهكذا ، هذا الأمر بالإضافة إلى سيطرة العمالة الوافدة على المحلات الصغيرة التي تخدم معظم الناس في حياتهم اليومية جعل الدخول للسوق بغرض التجارة للمواطن العادي أمر محفوف بمخاطر الخسارة والفشل مما دفع بالكثيرين إلى البحث عن مشاريع جديدة لم تنفذ بعد ، أو تطوير خدمة معينة بطريقة مختلفة تجذب الزبائن وتمنح المحل التجاري ميزة إضافية لا تتوفر في المحلات الأخرى .
إن البحث عن المشاريع الجديدة التي تحمل طابع الإبداع أو الابتكار أمر جيد وطريقة رائعة لتجديد المنتجات وبالتالي خلق فرص عمل عديدة واتجاهات اجتماعية جديدة على أن يكون هذا الإبداع شامل لكافة المجالات وبشكل متوازن حتى تتحقق الفائدة ، وهذا يدفعنا إلى استحضار موضوع انتشار ثقافة ريادة الأعمال بشكل واسع وكثرة المتحدثين فيها وإبراز بعض النماذج الناجحة التي أنشأت مشاريع حققت مكاسب وشهرة واسعة وحث الناس على الاتجاه في هذا الطريق .
من خلال ملاحظة ومتابعة بسيطة للمشاريع التي يفترض أن تحمل الطابع الإبداعي ، نلاحظ أنها تتركز في غالبيتها على أمرين ، الأول هو الغذاء خصوصاً الحلويات والأمر الآخر هو التوصيل ( لحد باب بيتك ) حتى أن الحماس لهذه الفكرة وصل بأحدهم أن طرح مشروع فرن محمول على شاحنة يخبز لك الخبز أمام منزلك ، طبعاً لا أقلل من قيمة المشروع بقدر ما أؤكد على أن مسألة التوصيل أصبحت تستحوذ على الاهتمام فعلاً .
لا زالت التبعية والتقليد والخوف من المبادرة هي النمط المسيطر اجتماعياً ، وهذا ربما ما يفسر لنا تشابه الكثير من المشاريع الشبابية التي يتوقع أن تحمل طابع الإبداع والتجديد فنلاحظ أن المشاريع أصبحت  مثل ( الموضة ) تظهر وتغيب فجأة كما تنتشر فجأة تقليعة ملبس أو تسريحة شعر فبمجرّد توجه شخص أو اثنين لمجال معين تجد أن الجميع يحصر تفكيره ورؤيته للدخول في هذا المجال وفي الغالب بنفس الطريقة وبعد فترة يخفت بريق هذا النشاط فيغلق الجميع أبواب محلاتهم .
إن السمات الشخصية التي يتمتع بها الشاب أو الشابة أحد أهم العوامل التي تؤثر بشكل مباشر في شكل الإبداع والتجديد في المشاريع الشبابية الجديدة ، فالإبداع في شتى المجالات ومن ضمنها المشاريع التجارية يتطلب تربية مبكرة على طريقة التفكير خلافاً للسائد عبر دمج مهارات التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية أو من خلال تقديمها للأطفال والمراهقين على هيئة برامج مستقلة عن طريق مدربين متخصصين في التدريب على التفكير بأنواعه ، كذلك من الأمور التي يجب أن تتوافر في الشخصية حتى تفكر وتبدع أن تكون الشخصية مستقلة غير تابعة في اتخاذ القرار لا تنتظر دائماً الحلول الجاهزة ، من جهة أخرى فإن عدم وجود مؤسسات مجتمعية تهتم بتوعية وتدريب ومساعدة الشباب والشابات بشكل حقيقي وواقعي على البدء في مشاريعهم المبتكرة يعيق التقدم التجاري لديهم ويكبدهم خسائر فادحة ، نعم هنالك مجموعات قائمة على مثل هذه الأعمال في مختلف المدن والمحافظات لكن الغالب على عمل هذه المجموعات هي النخبوية وتركيزها على مجموعة من الأشخاص والمشاريع التي نراها تتكرر في كل لقاء أو مؤتمر متعلق بريادة الأعمال والمشاريع الشبابية الإبداعية .
ولا بد أن ننوّه هنا بأن المجالات التي تحمل فرصاً تجارية بإمكان الشباب والشابات الإبداع فبه عديدة ومتنوعة فهنالك المجال الصناعي أو الخدمي أو مجال المعرفة والترجمة والتدريب وغيرها الكثير من المجالات التي تحمل بداخلها العديد من الفرص الرائعة والمنتجة والتي تعود بالنفع الحقيقي لكنها تحتاج فقط بعضاً من البحث والتفكير بشكل مختلف بعيداً عن الكب كيك والشاي على الجمر .

التاسعة مساءً

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

تداول المواطنون في المملكة العربية السعودية منذ يومين خبر يفيد بقرب تطبيق قرار إغلاق المحال التجارية عند التاسعة مساءً على نطاق واسع وفي كل الوسائل ، وكانت التوصية بهذا القرار قد رفعت للجهات المسؤولة سابقاً من قبل المجتمعين ضمن الحوار الوطني الأول الذي أقيم في مدينة الرياض عام 1433 هـ بمشاركة جميع أطراف الإنتاج من أصحاب العمل ووزارة العمل بالإضافة إلى مشاركة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ، وقد جاء هذا الحوار تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين آنذاك الذي وجّه بأن يكون ملف سوق العمل موضوع هذا الحوار ، بعد ذلك أخذ القرار حقه الكامل من الدراسات والاستشارات حتى تم إقراره مع تعليق تنفيذه حتى يحين الوقت المناسب لذلك .
من خلال متابعة ردود فعل المواطنين خلال اليومين الماضيين تجاه هذا الخبر نلاحظ زيادة كبيرة في نسبة المؤيدين للقرار ، حيث ارتفعت هذه النسبة أمام نسبة غير المؤيدين له مقارنة بالعام السابق حين تم الإعلان عنه ، كما يلاحظ أن معظم الذين لا يؤيدونه بنوا وجهات نظرهم بناءً على رؤيتهم له من ناحية اجتماعية فقط تتعلق في مجملها بأسلوب الحياة العامة للأسرة والأفراد وظروفها الاجتماعية .
لقد ذكر العديد من المسؤولين والاقتصاديين خلال حديثهم عن القرار بأنه قرار اقتصادي تنموي بالدرجة الأولى الهدف منه تحسين بيئة العمل الخاص وجعلها جاذبة للموظف السعودي الذي يحتّم عليه تواجده في بلده مسؤوليات عائلية واجتماعية لا يمكن تلبيتها مع طول ساعات الدوام في المحلات التجارية والذي يصل في كثير من الأحيان إلى ما بعد منتصف الليل ، والجميل هنا أن هذا القرار سيأتي كما ذُكر متزامناً مع قرار تحديد ساعات العمل بثمان ساعات يومياً كحد أقصى ، وهذا ما سيحد من تسرب المواطنين من وظائف القطاع الخاص خصوصاً المتعلقة بمحلات البيع في الأسواق الكبيرة .
كما نعلم فإن وزارة العمل ومن خلال عدة قرارات تسير باتجاه المساواة بين مميزات العمل في القطاعين العام والخاص هو توجه مفيد ومهم سيساهم بشكل كبير في تخفيض نسب البطالة وتخفيف الضغط على الوظائف الحكومية ، كما أنه سيسهم في تحسين البيئة الاجتماعية من خلال مساعدة الموظفين على الاستقرار الوظيفي وبالتالي تمكنهم من تكوين أسر مستقرة تحظى برعاية رب الأسرة خلال الأوقات التي يفترض تواجده فيها في المنزل كما أنه سيساعد الموظفات من النساء اللاتي يعملن في محلات بيع التجزئة الخاصة بالمستلزمات النسائية على الإيفاء بمتطلباتهن الأسرية والاجتماعية .
إن غالبية الأمور التي يخشاها الذين لا يؤيدون هذا القرار قد تحدث عنها وزير العمل وبقية المسؤولين وأفادوا بأنها محل نظر ومراعاة وبأن هناك استثناءات لمحلات عديدة لا بد من بقائها مفتوحة لوقت متأخر مثل الصيدليات ومحطات تعبئة الوقود وبعض المطاعم وخلافه ، كما أفادوا بأن هناك نظام جديد تتم دراسته وربما سيصدر بالتزامن مع القرار فيما يخص المحلات التي تفتح أبوابها طوال اليوم للمتسوقين .

التخوف من التغيير قبل صدور أي قرار يمس الحياة الاجتماعية المعتادة هو أمر طبيعي ومتوقع دوماً ، ولا يلام صاحبه أبداً إذ أن الإنسان دوما يسعى إلى المحافظة على نمط حياته ولا يريد أن يطرأ عليه أي اختلاف لا يكون متأكداً من إن كان سيناسبه أو لا ، لكني أتوقع بشكل عام أن يساهم القرار في تحسين الكثير من العادات الاجتماعية التي تحتاج إلى تحسين فيما يخص الأوقات ، نعم قد يكون هذا التحسين بطيئاً وربما يستغرق وقتاً طويلاً ، لكن في النهاية سيعتاد الناس على عادات أفضل وسيحقق القرار بإذن الله إلى جانب هذا الأثر الاجتماعي الايجابي آثاره الاقتصادية والتنموية المنشودة .

الفكرة بين المثالية والتطبيق

( نشرت في صحيفة خليجي بوست )

( إن طوراً جديداً في التاريخ العالمي قد بدأ ، حيث لم تعد أسباب النزاعات كما كانت في السابق اقتصادية أو إيديولوجية أولية بل أصبحت النزاعات والانقسامات ثقافية )
هذا ما تنبأ به وكتبه المفكر السياسي صاموئيل هنتجتون في مقالة نشرت عام 1993 م ، وقد طوّر فكرته لاحقاً وحولها إلى مشروع صدر في كتاب مهم تحت عنوان ( صراع الحضارات ) تناول فيه أطروحته بشكل مفصل ، واليوم وبعد أن وضعت العولمة أوزارها وبرزت الثقافات المختلفة من جديد نلاحظ أن شيئاً من تلك الرؤية قد ظهر وأصبح واقعاً يعيشه الناس بعد أن انتقل من عالم الأفكار المثالي إلى عالم الواقع الملموس . وهنا يبرز السؤال القضية : هل كان بالإمكان مجابهة هذا التحول وتعديل مساره ؟
الثقافة هي رؤية المجتمع للأمور وطريقة تفكيرهم فيها حيث تترجم في العادة إلى سلوك ، وتتكون الثقافة وتتشكل عبر تراكمات طويلة الأمد من الأديان والفنون والحضارات والأحداث والتجارب المختلفة ، وتخضع دوما للتطور أو التراجع وفق الظروف والأحداث المستجدة ، وتتكون عادة في العقل الجمعي اللاواعي حيث يصعب تحديد الدوافع الثقافية الكامنة خلف التطورات إلا عبر شواهد كثيرة وأحداث مختلفة وفي أوقات لاحقة يكون الظرف الثقافي قد انتهي فيه من التشكل وأصبح واضح المعالم ، ويتم عادة إدراك التحولات عن طريق المفكرين والمهتمين بهذا الشأن ، وعلى الرغم من كثرة الأبحاث والدراسات والجهود التي يبذلها علماء الفكر والاجتماع وغيرهم للتحكم في سيرورة ثقافة المجتمعات إلا أنها تسير دوماً كما تريد وفق معطيات وظروف لا يمكن التحكم بها .
وقد ذكر ابن خلدون ضمن مبادئ علم الاجتماع أن قوانين هذا العلم تفعل فعلها في الجماعات ولا تتأثر بصورة كبيرة بالأفراد والأحداث المنعزلة ، وقياساً على الأمثلة التي ساقها فإن المحاولات التي قد يقوم بها الذين يدّعون أو يحاولون الإصلاح قلّما تصادف النجاح لأن جهود الأفراد سرعان ما تكتسح من قبل التيار الجارف العنيف الذي تمثله القوى الاجتماعية المتأثرة بالثقافة المترسخة في العقل اللاواعي .
ومن هنا فإنني أرى بأن دور المفكر والمثقف صاحب الرؤى والأفكار يتوقف عند طرحها عبر الكتب والمقالات الجادة والرصينة ووسائل الإعلام المختلفة ، وأن يُبقي ما يراه في حدود النقاش والتعاطي المثالي بعيداً عن أي محاولة لفرضه على أرض الواقع ، حيث أن تطبيق تلك الأفكار لا يمكن أن يتأتى عبر الممارسة الواعية بل تبقى الأفكار حتى تنضج ويحين وقتها ليجدها هو أو من يأتي بعده تتغلغل في النسيج الاجتماعي بكل هدوء ووفق رغبة وضرورة ودون أي ممارسة متعمدة . ولو تأملنا قليلاً في التاريخ القديم أو الحديث سنلاحظ بأن معظم الذين حاولوا تطبيق أفكارهم مباشرة قد قتلوها من حيث أرادوا لها الحياة ، وبأن أكثر التحولات الثقافية التي حصلت عبر التاريخ لم يكن أحد يستطيع أن يفرضها بالطريقة التي حصلت بها ، مقابل ذلك فإن تفسيرها وتحليلها لاحقاً كان أمراً منطقياً وواضحاً وقابلاً للفهم والاستيعاب .