نلاحظ دائماً بأن الشعور بالسعادة والطمأنينة والرضى هو ما نتوقعه من
الناس الذين نشاهدهم في صورة أو مشهد لحي شعبي أو منطقة فقيرة ، سواءً كان ذلك في
الواقع أو في الأعمال الفنية من أفلام ومسلسلات ، فهنا أطفال يلعبون وهنالك رجال
يتحلقون حول إبريق شاي وعلى الطريق نسوة ذاهبات أو عائدات من زيارة لإحداهن ،
دائماً تشعر بأن هنالك شيء من الألفة والمودة بين الجميع ، كذلك حين تزور الدول
الفقيرة تلاحظ بأن ابتسامة الرضى والاحترام تعم الجميع وفي كل مكان رغم حالة الفقر
والعوز التي يعيشونها ، كما أنك تلاحظ بأن علاقاتهم فيما بينهم تسودها الكثير من
المحبة والوئام ، مقابل ذلك فإنك تشعر بأن هنالك شعور بعدم الرضى والتبرم الدائم
في المجتمعات الأكثر ثراءً سواء على مستوى الواقع أو على مستوى الأعمال الفنية
التي تعكس هذا الواقع ، الناس هناك دائمي الضجر ، تسود علاقاتهم الانتهازية وتشعر
بأن بينهم الكثير من عدم الانسجام ، ولا تلاحظ بينهم تلك العلاقة الحميمية التي
تكون عادة بين الفقراء .
هذا الأمر الذي يخالف المتوقع يجعلنا نتساءل حول تشكل مثل هذه الظواهر
في تلك المجتمعات ويحفزنا على البحث عن سبب تبرم من تهيأت له كل أسباب الراحة
الأساسية مقابل رضى من يفتقر أحياناً إلى بعض المتطلبات الأساسية في حياته .
إن روح المنافسة التي تسود المجتمعات التي يكون غالب سكانها من الطبقة
المتوسطة والتي تعتبر ثرية مقابل المجتمعات الفقيرة تجعل الجميع في حالة صراع
مستمر مع النفس ومع الآخرين ، الناس هناك دائمي التطلع للمستقبل وعلى جميع الأصعدة
، سواءً في المقتنيات أو الوظائف أو على المستوى الاجتماعي وحتى في مجال الترفيه
والكماليات ،هذا الأمر يجعل الفرد يرى في الآخرين منافسين له أكثر من كونهم شركاء
له في الأرض والانتماء والمصير ، بينما
يخف التنافس كثيراً في المجتمعات الفقيرة مما يجعل الجميع يرضى بما لديه ولا يشعر
بالتمايز بينه وبين الآخرين وذلك يؤدي بلا شك إلى مثل تلك الحميمية والمودة بين
الجميع .
هنالك فرق كبير بين الثقافة والحضارة ، الثقافة هي مجموعة الأفكار
والتوجهات التي تشكلت عبر تاريخ طويل من التجارب والأفكار ، بينما الحضارة هي
التقدم على مستوى الواقع من تطور تكنلوجي ومبانٍ وطرق معيشية ، الثقافة داخل
النفوس تؤثر في السلوك ، والحضارة خارجها تؤثر في طرق المعيشة ، هذا الفرق ربما
يفسّر لنا شيء من الإشكالية التي طرحت أعلاه ، حيث تمتلك بعض المجتمعات ثقافة جيدة
رغم تأخرها حضارياً مما يجعل سلوكها المتأثر بتلك الثقافة أكثر تهذيباً وإنسانية
من بعض المجتمعات التي تقدمت حضارياً ولم تتقدم ثقافياً بنفس المستوى وهو ما انعكس
على العلاقات بين الناس وسلوكهم فيما بينهم .
يثقل من توفرت له متطلبات المعيشة الأساسية نفسه بالاهتمام بالكثير من
القضايا ، يهتم بالسياسة والاقتصاد والتعليم وبالثقافة والفكر ، تجده يشعر بأن كل
تقصير سيؤثر عليه ، وبأن كل تقدم سيناله منه جانب ، هذا الاهتمام والتعاطي والنقاش
يشكل عبئاً إضافياً على الفرد ، يحملّه هم الحاضر والمستقبل ويؤثر على مزاجه
وبالتالي سلوكه وأخلاقه ، بينما يشعر الفقير بأنه خارج كل الحسابات ، لذلك فهو لا
يهتم إلا بمحيطه الصغير ، منزله والحي الذي يسكنه وعلى أبعد تقدير مدينته التي
يقطنها ، هو يعلم يقيناً أنه لن يستفيد من التقدم ولن يتضرر من التأخر ، لذلك
فليست له اهتمامات كبيرة تنغص عليه يومه ، فيجد الوقت الكافي للجلوس مع الأقران
والاستمتاع بالأحاديث البعيدة عن معترك السياسة وآلات الاقتصاد ، كل همه مكان
يجمعه بأطفاله ولقمة عيش تسد جوعهم وبعض المتطلبات الأساسية ، توفر مثل تلك
الأشياء البسيطة كفيلة برسم ابتسامة الرضى والسعادة على محياه ، ابتسامة صادقة
نقية ربما يفتقدها الكثير من الأثرياء .