في ذلك النظام الجديد : المرونة هي الثبات الوحيد والزوال هو الدوام
الوحيد والسيولة هي الصلابة الوحيدة ، باختصار شديد : اللايقين هو اليقين الوحيد .
بهذه الجمل التقريرية يصف زيجمونت باومان زمن ( الحداثة السائلة ) كما
يسميه في مشروعه الاجتماعي الاقتصادي الذي بدأه بكتاب ( الحداثة السائلة ) ، ثم
أتبعه بعدد من الكتب التي توضح وتشرح نموذجه التفسيري التي اتخذه في تحليل مرحلة
ما بعد الحداثة إن صحت التسمية ، حيث يقول أن أهم ما يميز هذه المرحلة أنها تسعى
دوماً إلى التحسين والتقدم دون وجود حالة نهائية تلوح في الأفق ودون وجود رغبة في
هذه الحالة النهائية .
أحد أهم الأفكار التي طرحها باومان في مشروعه هي تحول طاقات البشر من
الإنتاج إلى الاستهلاك وهو الفرق الجوهري الذي تتصف به هذه المرحلة السائلة كما
يسميها ، وتبعاً لذلك فقد تمركزت الحياة الاجتماعية حول الاستهلاك بدل الإنتاج
وتحولت بالتالي قيمة الفرد من تبعيتها إلى مستوى إنتاجه إلى مستوى استهلاكه الذي
أصبح المعيار الأول لقيمة ذلك الفرد في المجتمع ، وارتفع مستوى التطلعات من الحاجة
إلى الرغبة ، وقد أورد باومان الفرق بين الصحة واللياقة كمثال يوضح من خلاله هذا
الفرق منوهاً إلى أنه إذا كان مجتمع المنتجين قد جعل الصحة معياراً ينبغي تحقيقه ،
فإن مجتمع المستهلكين دائماً ما ينادي باللياقة ويدعو أعضاءه إلى الجري خلفها .
على الرغم من اشتراك الصحة واللياقة في التعامل مع جسم الإنسان إلا أن
هنالك فرقاً جوهرياً بينهما يشبه الفرق بين مرحلتي الصلابة والسيولة ، فالصحة كما
نعلم هي حالة سليمة مرغوبة لجسم الإنسان وروحه يمكن وصفها وقياسها بدقة كبيرة ، إنها
حالة تمكن الفرد من القيام بكافة متطلبات الحياة الأساسية والتي تكون عادة ثابتة
ومستمرة ( صلبة ) كما تساعده على الاستمتاع بما يقوم به وتسمح له بالعمل في أي
مكان سواءً أكان في المصنع أو المنجم أو المكتب أو في أي مكان آخر .
أما اللياقة فيمكن وصفها بأي شيء إلا ( الصلابة ) لأنها بطبيعتها لا
يمكن الإمساك بها وتحديدها بدقة ، فالاختبار الحقيقي لها دائماً ما يقع في
المستقبل لأنها بلا سقف محدد ، وانعدام سقفها بالتحديد هو ما تستمد منه هويتها حيث
تغيب كافة الأطر التي يمكن أن تنحصر داخلها لتصبح طريقاً طويلاً لا نهاية له
وسفراً لا منتهٍ بعكس الصحة التي يمكن تحديد وجهتها النهائية باطمئنان .
إن الشخص الذي يجاهد في سبيل اللياقة في حركة دائبة وتغير مستمر ، ولا
يقين لديه ببلوغ النهاية أو بالأصح لا يوجد لديه خط نهاية ، هذا الشخص معرض
للمخاطر في جسده ولديه احتمال بأن يصاب بالإحباط والتشتت ، إنه يسعى وينمي لياقته
لا يعلم لماذا بالضبط ولا متى سيتوقف ولا
ما ينتظره مستقبلاً .. باختصار هذا الشخص هو الفرد في مرحلة الحداثة السائلة .