استهلاك اللفن

( نشرت في صحيفة ينبع الإلكترونية )


يقول أحد الآراء بأن كل شيءٍ يُحدث تغييراً على ديمومة الأشياء أو الأحداث هو نوع من أنواع الفن ، فتحويل شكل صخرة ظلت عليه لقرون إلى منحوتة جميلة فن ، وتغيير شكل الكلمات العادية التي تستعمل على الدوام بهذا الشكل إلى كلمات موزونة ومقفّاة لها أثرها الفني فنٌ أيضا ، هذا الرأي انطلق من مبدأ الديمومة لهنري برغسون الذي طبّقه في كتابه " الضحك " ، لذلك فإن التغيير في الأشياء وفق رؤية ذاتية في البدء هو فن في معناه الشامل الذي يتفرّع ويتحدد إلى مجالات متعددة أخذت رؤاها وقواعدها من خلال التراكم الإنساني عبر العصور .
لقد بدأ الفن منذ العصور القديمة وفقا للحاجات المعيشية التي دعت الفرد لتحويل الحجر الى أداة يستعملها في حياته اليومية ، وجذوع الاشجار الى رماح او سفن ، حينها لم يكن ذلك العمل فناً بمعناه الجمالي بل كان أقرب للحرفة والصنعة ،  لذلك بقيت قيمة الفنانين منخفضة في السلّم الاجتماعي وكانوا في منزلة الحرفيين والصنّاع .
في عصر النهضة الإيطالية بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي ومع ازدهار الفن خصوصاً فن النحت والرسم التي كان الهدف الأساسي منها هو إنشاء المعابد ورسم الرسوم الروحانية للكنيسة ، أدخلت مبادئ الرسم والتركيب الفني في تأسيس الأكاديميات الملكية للفن ، وارتفعت معها قيمة الفنانين ،  في ذلك الحين كانت الرسوم الأسطورية هي الأنبل ثم الطبيعية التي تحاكي جمال الطبيعة ثم الواقعية التي تصور طريقة الحياة اليومية وقد أصبح الرسامون و النحاتون والموسيقيون يقومون بأعمالهم الفنية بناءً على طلبات ورغبات طبقة النبلاء أو المؤسسات الرسمية وفق عقود مكتوبة ومبالغ مالية محددة ومدة زمنية معينة .
ومع بداية القرن العشرين ربط عدد كبير من المؤرخين و العلماء مبادئ الفن بالأنماط الاقتصادية والبنى الاجتماعية الطبقية متأثرين في هذه النظرة بالفكر الماركسي خصوصاً في روسيا وأجزاء كبيرة من أوروبا وأصبح الفنانون وفقا لذلك أعضاء في جماعات محددة لهم أدوار وموضوعات معدة مسبقا وأصبحت الأعمال الفنية تمول وتشترى من قبل أفراد أو مجموعات أو مؤسسات ضمن سوق استهلاكي تحمه آليات العرض والطلب .
خلال الفترة الأخيرة تيسرت كافة الظروف التي تساعد الفن على أن يصبح في عزلة عن كافة المتطلبات التي تحاصره ، خصوصاً مع انتشار الآلات والمطابع والمكائن والكاميرات التي قد تقوم بمهمة الفنان القديمة التي تطلب منه ، ولكن ما حصل للأسف أنه ومع سيطرة المادية والنفعية على أسلوب الحياة في ظل تراجع المعاني الإنسانية والذاتية أخذ الفن بجميع أنواعه ينخرط ضمن الآلة الاقتصادية الضخمة التي تدير العالم ، وتحولت قيمة العمل الفني من أثره الفني على المتلقي إلى قيمته المالية التي بيع بها أو الأرباح المالية التي حققها حتى وصلنا اليوم إلى أن الإعلان عن أي عمل فني يتم من خلال قيمته المادية وليست الفنية .

إن سيطرة المادية على الفن تخنق الإبداع فيه وتجعله مرهوناً لمتطلبات ومعطيات السوق ، من سيشتري ؟ وبكم ؟ وأين ؟ وتستمر الأسئلة حتى يبرز السؤال الأخطر ما الفائدة من أي عمل فني إذا لم ينخرط ضمن آليات البيع والشراء ويكسب ؟ ، وهذه النتيجة هي أمر حتمي لنزعة الاستهلاك التي طالت الفن ضمن ما طالته من قيم إنسانية أهم من قبله حيث أصبح الأمر فيها يقاس بالربح والخسارة فقط .