أيهما أسبق .. الفكرة أم الواقع ؟


( نشرت في جريدة الوطن ) 

عندما يتم النقاش حول مشكلة اجتماعية ما ويرغب المتناقشون في طرح الحلول نجد أنهم في الغالب ينقسمون إلى فريقين ، الأول يرى ضرورة توعية الناس ونصحهم للحد من تلك المشكلة بينما يرى الفريق الآخر ضرورة سن القوانين الصارمة للحد من تلك المشكلة ، الفريق الأول يرى الحل في تغيير الأفكار بينما يرى الفريق الآخر أن تغيير الواقع مباشرة هو الحل ، وهذا الاختلاف في الرؤية يشبه كثيراً الفرق بين من يرى بأن السعي لمستقبل مشرق لابد أن يبدأ ببناء الإنسان عبر التعليم والتربية وبين من يرى بأن النهضة تتم عبر فرض واقع اقتصادي ووظيفي جديد يغير المجتمع نحو الأفضل .
على مستوى الدول والأمم في سقوطها ونهوضها نلاحظ أيضاً بأن هنالك دول عديدة نشأت أو تلاشت عبر أفكار مسبقة وضعت على يد مفكرين أو فلاسفة بينما دفعت ظروف الواقع دول أخرى إلى النهوض أو السقوط دون وجود أفكار مسبقة .
الجدل حول أسبقية الفكرة أو الواقع جدل قديم جديد ، ويتغير شكله متخذاً عدة أشكال سواءً كانت على مستوى الرؤية أو التطبيق ، وقد لا يتضح بأن هذا الجدل هو أساس الاختلاف في كثير الأمور إلا عند استحضاره وفهمه من كافة جوانبه ، من جهة أخرى فإنه بالإمكان ملاحظته من خلال سماع حديث بعض المسؤولين حين يتحدثون عن خططهم ورؤيتهم لتطوير إدارتهم أو حين سماع تعليق لأحدهم حول أحداث أو حلول معينة . ولا يعرف كثير من الأشخاص العاديون أنهم يؤيدون ذلك التوجه أو التوجه الآخر إذ أن مثل هذه الرؤية تكون مختبئة داخل تفكير الإنسان ، لكنها تظهر ويمكن ملاحظتها من خلال مناقشته أو معرفة رؤيته حول بعض الأمور .
كثيراً ما نلاحظ طرح بعض الحلول أو التفسيرات بطريقة تسعى إلى الجمع بين الأمرين ، كأن يتم إطلاق حملة توعوية لمعالجة أمر ما بالتزامن مع البدء في سن القوانين التي تمنعه وتعاقب مرتكبه ، في الغالب نجد مثل هذه الحلول التي تحاول السير على الاتجاهين تركّز عملها على ناحية دون الأخرى لأنها تؤمن بأنه هو الحل وإن لم تصرّح بذلك ، كما نلاحظ على صعيد التطبيق بأن أحد الأمرين كان هو الحل بالفعل ولم تكن هنالك حاجة حقيقية للأمر الآخر .

وعلى مستوى الواقع الآن ومن خلال التجارب وملاحظة النتائج نلاحظ دوماً بأن التغيير الاجتماعي لا يحصل إلا عبر فرض القوانين والتغييرات على أرض الواقع خصوصاً في الأمور المهمة والملحة والتي لا تقبل التأجيل بينما وعلى مستوى التغييرات الكبرى وبعيدة الأمد فإنه من المهم بذل الوقت والجهد في وضع التصورات والرؤى وطرح الأفكار قبل التنفيذ وكلما وضحت الأفكار وتعمقت وفهمت كلما كان أثرها أكبر وتطبيقها أسهل . ولابد من الإشارة هنا إلى ضرورة أن يكون صانع الأفكار بعيد عن ميدان العمل والعكس صحيح ، وهذا ما نلاحظه في التجارب الناجحة لنهوض الأمم في السابق حيث قامت على أفكار فلاسفة ومفكرين كانوا بعيدين جداً عن معترك السياسة والاقتصاد .

اللحظات الفارقة

( نشرت في جريدة الرياض )

نسمع كثيراً ممن يشجعون الآخرين على الإنجاز والإبداع يقولون أن ذلك العالم الفذ أو ذلك المخترع العظيم كان يوماً من الأيام تلميذاً فاشلاً أو مصاباً بمرض عقلي أو نفسي ما ، وفي نفس الوقت نسمعهم يقولون بأنه من المفترض أن يجتهد الطالب ويتفوق في دراسته ويحظى برعاية جيدة حتى يصبح ذو شأن حينما يكبر !
كما نعرف كثيراً من الناس الذين نشأوا في بيئة واحدة وتعرضوا لنفس الظروف ولهم نفس القدرات أصبح بعضهم ناجحاً في حياته بينما أصبح الآخرون فاشلون فيها بشكل كبير ، كما نلاحظ كثيراً أيضاً بأن عدداً من الأسر التي تكني أطفالها بكنىً مثل دكتور أو مهندس أو عالم لتشجعيهم على أن يصبحوا كذلك ، قد أصبحت فيما بعد تعاني من فشل أبنائها بشكل كبير ، بينما أصبح بعض أبناء جيرانهم أو أقاربهم الذين لم يكونوا يهتمون بتشجيع أبنائهم ورعايتهم دكاترة ومهندسين أو على الأقل ناجحين في حياتهم ، كذلك الحال مع أبناء ذلك الملتزم الذي كان يحرص على تربية أبنائه تربية دينية صارمة وحين كبروا لم يلتزموا به كما كان متوقع منهم بل إن أبناء الآخر المتساهل أصبحوا أكثر التزاماً منهم .
مثل هذه الأمثلة التي نلاحظها كثيراً في محيطنا تجعلنا نفكر في كيفية تكوين الفرد الصالح الناجح في حياته بشكل عام وفي طريقة تكوين ذلك الآخر الفاشل ، هل كانت التربية هي السبب ؟ أم القدوة ؟ أم البيئة ؟ أما ماذا بالضبط ؟ وكل ما قلنا بأن هذا أو ذاك هو السبب وجدنا أن عدداً كبيراً من الناس يخالف تلك القاعدة ، وبأن هذا العدد يدل على أنهم ليسوا حالات شاذة ، بل أن ما نتوقع أنه السبب هو ليس في الواقع السبب الحقيقي بل هي مجرد رؤيتنا التي نتوقعها ، مما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي :
ما الذي جعل الناجح الذي لم يحظ بما يؤهله ليكون ناجحاً ، ليصبح ما هو عليه اليوم ؟ وبالمقابل ما الذي جعل الفاشل الذي تلقى كل ما يؤهله ليكون ناجحاً ، فاشلاً ؟
في اعتقادي أنها ( اللحظة الفارقة ) نعم إنها تلك اللحظة التي حدث فيها للفرد أمر ما شكّل منعطفاً هاماً في حياته أخذه إلى طريق النجاح أو طريق الفشل ، تلك اللحظة هي التي رسمت للفرد طريقه المستقبلي الذي سيسلكه بقية عمره دون أن يكون قد أعد له سلفاً ، اللحظة الفارقة هي تلك اللحظة التي قد تنسف كل ما مضى من تربية ورعاية وتعليم أو ترمم وتعالج كل القصور الذي حدث فيها ، ليس هناك وقتاً محدداً للّحظات الفارقة ، قد تأتي للفرد في طفولته أو شبابه أو بعد ذلك ، قد تكون تلك اللحظة مكافأة من معلم أو عقاباً منه ، وقد تكون قبول في جامعة أو مركز معين أو رفضها له ، قد تكون لحظة إلهام بفكرة جيدة أو شيطانية ، وقد تكون لحظة تعرف على صديق جديد رائع أو سيء سيؤثر عليه مستقبلاً ، قد تكون حادث أو تعلم مهارة أو علم جديد وقد تكون لقاء عابر بآخر عرض عليه أمر غير متوقع .
لو تأملنا حياة الناجحين أو الفاشلين من حولنا سنجد أن لكل منهم لحظات فارقة في حياته غيرت مسيرته ، قد نعرفها وقد لا نعرفها إلا بعد سؤاله عنها .
بقي أخيراً أن نتساءل :
هل يشترط أن يكون لكل شخص لحظة فارقة في حياته ؟ وهل يمكن توقع اللحظات الفارقة والإعداد لها ؟ هل يمكن أن تكون لنفس الشخص لحظات فارقة متعددة في حياته ؟ وهل نستطيع صنع لحظات فارقة لأنفسنا او لغيرنا ؟